الأربعاء، 15 أبريل 2015

السكاكين قصة محمود البدوى








السكاكين

     ذات ليلة من ليالي الصيف التقيت بشاب وأنا أهبــط من سلم عمارة كبيرة تقع في شارع جانبي ، بحي عبــــد العزيز فهمي بمصر الجديدة .. وكان هذا الشاب يحمــل على ظهره القفص المستعمل في استنان السكاكين .. ويتحرك في الطرقة الداخلية بتؤدة وسكون ..
      وكان منظره غريبا ، وهو يحمل القفص ، ويصعد به إلى الدور الخامس في مثل هذه الساعة من الليل . فتوجست منه شرا في الحال . وخمنت إنه صعد ليتلصص ، ويسترق السمع . فإذا تيقن من خلو الشقة من الساكن ، عالج فتحها بطريقته ودخل .. وإذا وجد سيدة بمفردها استغل هذا وكممها بطريقته الشيطانية واستلب ما يحلو له . وكان بالعمــارة عجــوز تعيش وحدهــا في نفـس الدورالذي وجدته فيه ..
      واقتربت منه وسألته وكان يسير أمامي في الطرقة :
     - إلى أين يا أخ..؟
     فاستدار بتكاسل وقال :
     - طالع لشقة الست قدرية .. ؟
     - من هي الست قدرية .. ؟
     - ممثلة في السينما.. وهي التي طلبت مني الحضور اليوم ..
     - لا توجد في العمارة ممثلات.. ولا توجد ممثلة بهذا الاسم .. ؟
     - حضرتك ساكن هنا .. ؟
     - لا ..
     - كيف عـرفت إذن أنه لا توجـد ممـثلة في العمارة اسمها الست قدرية .. ؟
     - لي قريب يسـكن هنا .. وأنا أزوره مـن زمـن .. وأعرف كل السكان ..
     - حضرتك غلطان .. الست قدرية تقيم هنا في الدور السابع ..
     ـ تقيم أو لا تقيم .. كان يجب أن تصطحب معك البواب وأنت طالع عمارة الساعة التاسعة ليلا ..
     وواجهني بكل تقاطيع وجهه بعد سماعه هذه الكلمات. ورأيت وجها طويلا، لوحته الشمس في سمرة خفيفة، ويغطي الشعر الأسود عارضيه كشيء محبب لنفسه، وليس عن كسل.. وجبهة عريضة مستوية تطل تحتها عينان باردتان لا بريق فيهما.. وكان أنفه أقنى وشعر رأسه أسود مثل الشعر النابت على ذقنه.. ويرتدي سروالا أخضر وقميصا مخططا مفتوح الأكمام.. وبحركة سريعة أخرج يده من جيبه ، واعتمد بأصابعه الطويلة على عضد القفص قريبا من " الجراب " وراقبت هذه الحركة بعين حذره ..
     وقال بصوت هادئ يرد على كلامي :
     - معـك حق .. ولكني لم أجد البواب .. والست ستؤدي لي خدمة كبيرة ..
     وانطفأ نور السلم في هذه اللحظة.. فتحركت سريعا لأضغط على الزر .. وشعرت أثناء فترة الظلام بالرعب . فما الذي يمنعه من استغلال الموقف ، وطعني بسكين .. وينزلق بعدها إلى السلم في هدوء الثعلب ، والقفص يحمـيه مـن الشبهـة .. وعاد النور .. وألفيته في مكانه ثابتا يترقب ..
     فسألته :
     - ما الذي ستفعله لك الست قدرية .. ؟
     - ستشغلني في السينما .. تعبت من الدوران .. ولا أحد يستن السكاكين الآن .. ذلك زمن مضى ..
     كانت كل الدلائل تدل على أنه مخادع ، والقفص خدعة كبرى ، فهو لص محترف .. وخطير .
     ورأيت أن أجاريه في الحديث .. وأصعد معه إذا صعد ، وأنزل إذا نزل حتى أسلمه في سكون إلى البواب ..
     ومن الغريب أن الفترة التي استغرقها الحديث طالت بيننا ، ولم يخرج من أبواب الشقق ساكن واحد .. ولم تتحرك رجل على السلم ..
     ووجدته يتخذ طريقـة إلى السـلم لينزل بدلا من أن يصعد إلى الست قدرية .. فنزلت معه ..
     ولاحظت أنه سريع الخطو، والقفص الذي على ظهره بعجلته الدوارة لا يعوقانه إلا قليلا ..
     وفي مدخل العمارة كنت أتوقع وجود البواب على الدكة .. ولكن لم أجده . فساءني ذلك ولكن قلت لنفسي أسير معه حتى شارع عبد العزيز فهمي .. وفي أثناء ذلك قد ألاقي من رجال البوليس من أحكى له قصة تلصصه على الأبواب في الليل وأسلمه له ..
     ولكن لم يمر أحد .. وبعد ثلاث دقائق من وجودنا في هذا الشارع الطويل الواسع المتلألئ بالأنوار القـوية .. انقطع النور فجأة . وخيم ظلام في سـواد الفحم على الحي كله .. وأصبحـت المنازل البيضاء شهباء ، وفي لون الرصاص ..
     ووجدته يتجـه إلى دكة حجرية ظهرت له على نور السـيارات فاتجهت معـه ، وجلسنا متجاورين .. بعد أن خلع القفص ووضعـه بجانبه ..
     وأوجد الظلام الرعب ، والهواجس التي تدور في الرأس .. وتذهب وتختفي لتأتي بشيء جديد أشد رعبا..
     وكنت أتوقع ألا يستمر انقطاع النور أكثر من دقائق قليلة ، ولكنه استمر ساعة وثقل وقعه على نفسينا ..
     وكان القمر في المحاق ، والليلة كئيبة خافتة ، ساكنة الهواء ثقيلة ، وحركت يدي في جيبي فشعر بها ، وظل يلاحظني بترقب شديد . ولكنه لم يوجه إلىّ كلاما .. ظل صامتا وأطرق ..
     ثم رفع رأسه ليقطع الصمت وسألني :
     - ما الذي تبحث عنه .. ؟
     - كنت أتأكد من وجود السلاح في جيبي .. !
     - السلاح ..! ؟ ولماذا .. الدنيا أمان .. ؟
     - ولكن الظلام يولد الشياطين .. ويخرجهم من باطن الأرض .. وأنت لا تعدم أفاقا .. يقطع عليك الطريق ..
     ـ  ولمــاذا تخــرج في الليــل إذا كنت تخـاف من الشياطين .. ؟
     - إن عملي يقتضي مني ذلك ..
     وسألني بصوت خافت ، وهو يحرك جانب وجهه :
     - وهل استعملت هذا السلاح .. ؟
     - كثيرا .. كلما أحسست بالخطر ..
     - إذن فنحن في أمان .. إذا طال هذا الظلام ..
     ثم رفع رأسه واستطرد بصوت مألوف :
     - ولكن سأضطر إلى الذهاب إلى بيتى إذا لم يعد النور بعد نصف ساعة ..
     - أين تسكن .. ؟
     - في الزيتون ..
     - تدهمك السيارات المسرعة .. انظر إليها ، إنها تسرع في الظلام في جنون ..
     ولاحظت أنه لا صلة لنا بهذه السيارات .. ولا بالذين يقودونها فمهما يحدث لنا .. هم فى شاغل تام عنه .. فلو تحرك وقتلنى أو قتلته ما شعر أحد منهم بما حدث .. هناك انفصال تام بيننا وبين ما يحيط بنا .. لقد تقطعت بنا فى هذا المكان الأسباب ..
***
وكنت أود أن أتحرك به بعد أن يعود النور، إلى قسم مصر الجديدة ، آخذة بالحيلة إلى قرب القسم وهناك أدعه للبوليس .. فإذا تركوه أو حجزوه فهذا ليس من شأنى .. ولكن وجوده في داخل العمارة على هذه الصورة هو الذي رابنى ، وبعث الشك في نفسى .. وأحسست به كأنه أغفى وهو جالس فقلت بصوت عال :
     - هل معك سكاكين .. فى هذا الجراب .. ؟
   واستراح لهـذا الســـؤال فقــد أدرك مـا فى نفسى من خوف ..
     - معي سكاكين كثيرة من كل الأنواع .. السكاكين التي تذبح الفراريج والتي تذبح الخرفان .. والتي تذبح الجاموس والعجول .. والتي تذبح الناس .. !
     - الناس .. يارب الطف ..
     - أجل مثل هذا السكين ..
     وأخرج سكينا بنصل ملتو .. تلمع في الظلام .. !
     وكان وجهه قد احتقن ، ولمعت عيناه ، بعد طول انطفاء لمعت في الظلمة ببريق غريب ..
     لا شك أنه يخيفني كما أخفته .. ولولا القفص الذي معه والذي يحمـله على ظهره .. لجـرى واختـفى في خطـف البرق ..
***
     كانت السيارات تأتي في قافلة.. وتختفي في مثلها.. وكأنها تسابق الريح .. أو تخاف مثلنا من الظلام ..
     وبعد أنوارها الساطعة المتداخلة.. يخيم سكون مطبق تسمع معه ضربات القلوب ..
     وتذكرت وأنا جالس قصة " لتشيكوف " عن مسافر وحيد اضطرته الظروف .. أن يقطع في الليل والظلام مئات الأميال في قلب غابة ساكنة موحشة بعربة يقودها حوذي منخلع القلب .. وظل الاثنان في رعب وتوجس بعضهما من بعض إلى نهاية الغابة .. رعب الرعب ..
     تذكرت هذه القصة .. عندما أوجدتني الظروف مع هذا الذي يستن السكاكين في مثل هذه الساعة من الليل حيث الظلام والتفرد ..
      ولم يخرج من البيوت المحيطة بنا ساكن .. كما لم نسمع صوت إنسان ..
     وكان ما يدور في رأسه ، مثل الذي يدور في رأسي .. فقد خيم ظلام الشك واستفحل ..
     وكانت أية حـركة منـه سأعاجلها بمثلها من جانبي دون تقدير للعواقب ..
     والإنسان عندما ينخلع قلبه يتحول إلى وحش .. وإلى مجنون .. وقدرت فارق السن الكبير بيننا .. وعملت حسابه .. ولكني لن أترك له فرصة للتلاحـم بالأيدي قط .. سأعاجله عندما أشتم منه أقل حركة عدوانية .. ولن أجعله يصيبني وأترك في هذا المكان للتخلف والفوضى وسوء الإدارة في إسعافنا ومستشفياتنا ..
     والظلام لا يخيفني ولكن يخيفني الذي يتحرك فيه .. وتذكرت أنني نمت وحـدي وأنا في مرحـلة الدراسـة الابتدائية ، في بيت من ثلاثة أدوار .. واستمر ذلك عشرة أيام متصلة . إلى أن رجع زملاء الدراسة من إجازتهم التي قضوها في الريف .. ولم أشعر بالخوف قط في تلك الأيام .. فما الذي يرعبني الآن ويخيفني ؟ لم أكن وأنا صغير أشعر بالخوف ، ولم أفكر فيه ولم يشتعل به رأسي .. أما الآن فأنا أفكر فيه وقد شغل كل حواسي .. لقد خرج إلىّ هذا الرجل من السلم كما يخرج الشيطان .. ومن وقتها وأنا أتوجس منه.
***
ومرت عـربة بوليس مسرعـة .. وكنت أود أن أصيح وأستوقفها ولكني أدركت بعد تأمل أن في هذا العمل حماقة .. فالرجل لم يرتكب جرما أمامى ، ولم يفعل ما يؤاخذ عليه .. مافي رأسي مجرد شك .. وليس هناك أي دليل ضده يجعله مدانا..
     ورأى العربة وهي تمرق كما رأيتها ولعله قرأ خواطري فشحب وجهه ..
     وسألته :
     - هل تخاف منهم .. ؟
     - كل بائع جوال يخافهم .. إنهم يطاردونني في كل مكان .. وقد اشتغلت في كل الحرف بسببهم .. وليس معي بطاقة .. وإذا دخلت القسم فلن أخرج منه.. وسيجعلونني أنظفه وأمسح أرضه .. ما دمت في الحجز إنهم يثيرون غضبك الأسود ..
      وانتفض وهو جالس . وأصبح حاله يخيفني ، وتذكرت كل قصص الرعب ، وكل ما أفزعني في الحياة .. ولم أجد لهذه الحالة نظيرا .. فأي أقــدار رمته إلىَّ في هذا الليل الأسود ..
***
   وتذكـرت أنني وضـــعت في جيبي علبــتين مـن الســــجاير " جرافن" اشتريتهمـا الليلة من فوق كوبري رمسيس .. وقد أغراني البائع على الشراء لأن ثمن العلبـة أربعون قرشا .. فأخرجت علبة وسألته :
     - أتدخن .. ؟
     - نعم .. منذ الصغر ..
     وقدمت له العلبة ..  فسر كثيرا وأخذ يردد :
     - تكفي سيجارة .. ومستورد .. أيضا ..
     وأشعل السيجارة فسكنت نفسه .. وسألته :
     - أهذه آخر حرفة لك .. ؟
     - أجل .. ومنذ سنتين .. وأنا أستن السكاكين .
     - والست قدرية .. ستشغلك بأجر طيب .. ؟
     - كومبارس .. بثلاثة جنيهات وأربعة في اليوم ..
     ولا يزال الظلام يلفنا وهو يدخن ..
     وقلت له :
     ـ إن حرفتك مسلية .. ومعظم زبائنك من النساء .. فلماذا السينما التي تشتغل فيها يوما وتتعطل عشرة .. ؟
     وأخذ الحديث الذي دار بيننا يسحب ظلال الشك ..
     وعادت الثقة بين إنسان وإنسان .. وتفتحت نفسه فقال :
     - كلامك صحيح.. ولكني تعبت من الدوران .. ومرة كنت سأنزلق وأطاوع الشيطان وأرتكب جريمة .. ولكن الله نجـانى من كل شر ..
     وسألته بشوق :
     - كيف .. ؟
     - ذات مرة .. في حوالي الضحى .. وكنت جائعا وتعبا وليس في جيبي قرش واحد .. صحت بصوتي كعادتي في الشارع فأطلت علي سيدة من الدور الثالث في هذا الحي الذي أتردد عليه .. وقالت :
     - اطلع ..
     فطلعت .. وكان بابها مفتوحا .. فوقفت خارجة .. وخرجت تحمل ثلاث سكاكين لأستنها ..
     ولاحظت أنها تظلع وليس بها من عرج ، ولكن شيئا أشبه بالشلل في رجلها اليسرى .. فتألمت جدا لحالها .. ولكنها عندما اقتربت لتسلمني السكاكين ، وجدت في عنقها قرطا مرصعا بالجواهر لا يقل ثمنه عن ألف من الجنيهات .. ولم أسمع حسا في الداخل .. وتأكدت أنها في هذه اللحظة وحيدة .. فقال لي هاجس الشيطان انك بحركة سريعة ، ودون أذية لها تستطيع أن تنزع منها القرط دون أن يحس إنسان .. أكممها أولا وأوثق يديها من خلفها ، وأربطها في ثوان بهذا الحبل في الداخل .. ثم أهبط السلم سريعا ..
     والإنسان فى هذه الساعة  الجنونية يفكر بروح البطل ..! ولا تدور في رأسه العواقب قط .. يختل عقله تماما ويتعطل .. وأنا فى خواطرى هذه سمعت الست تسألنى وهى تحدق فى وجهى ..
     ـ أنت تعبان .. ؟
     - في الحق دايخ شوية .. يا ست ..
     - لازم جعان .. لم تفطر .. سأجىء لك بلقمة ..
       ودخـلت سـريعا إلى المطبـخ وعادت بجبن ولبن وبيض .. تصور ..!! ومثل هؤلاء النسوة كثيرات في البيوت .. ويمر على بابهن مثلى .. وغيرهن بخيلات ودميمات ومن شر أنواع النساء فى الأرض ..
     بعد أن شبعت ارتد إلىّ عقلى الذاهب ..
     وقالت لى :
     - تسمح تعملى خدمة .. النهاردة آخر يوم في الشهر .. والشغالة التي تنظف لى البيت ، وتقضى حاجاتى لم تحضر فهل فى إمـكانك أن تجىء بالتموين من البقال .. وذكرت لى اسم البقال ..
     - حاضر .. يا ستى ..
     وأعطتنى البطاقة وخمسة جنيهات ..
     وقد جعلتنى هذه الثقة أخجل من نفسى .. ولما عدت وجدتها تمسح المطبخ .. فقلت لها وأنا أدمع بعينى :

     - عنك .. يا ستى ..
     وأخذت أمسح المطبخ وخارج بابها .. كل الفسحة .. وسمعتها تقول :
     - عشت ..
     أنا عشت .. ! ! إني ميت منذ ولدت .. وتقول لي هذه الست التي في جمال الملائكة .. عشت .. أخذت كالمجنون .. أمسح وأغسل الحوائط والأرض والجدران .. والنوافذ .. أنا أسمع عشت في حياتي من أجمل نساء الأرض .. أنا البائع الجوال المطارد من البوليس .. والشريد الطريد في كل مكان .. عشت .. أردت أن أقبل قدميها قبل أن أنزل ولكني خجلت أن تلوث شفتاي جسمها .. وناولتني جنيها ونزلت .. وقد شعرت أن حياتي الضائعة ردت إلىّ .. لقد أخرجت من ظهري كل السكاكين التي انغرست في لحمى ..
     وكانت كلما سمعت صوتي في الشارع تناديني لأستن لها سكينا أو أصلح شيئا .. وتعطيني أضعاف أضعاف ما أستحق .. ثم لم أعد أراها ولعلها ذهبت إلى مستشفى .. وخجلت أن أسأل عنها ..
     وأنا أتردد على هذا الحي منذ سنة ، وبعض السّتات يقدمن لي المال شفقة بي ، دون عمل يذكر من جانبي لأن صنعتي مضى زمنها .. وقلت لنفسي إن هذا أشبه بالتسول ولا أرضاه .. ولما قالت لي الست قدرية أنها ستجـد لي عملا في السينما سررت كثيرا ، وسأعود لأسأل عنها غدا .. إنها لا توجد في بيتها إلا في الليل ..
     وعاد النور إلى الشارع فنهض ليلبس القفص وقبل أن يتحرك أعطيته علبة السجائر الأخرى التى معى ..
     وحياني وذهب يطويه الليل وفي نفسه كما في نفسي كل الهواجس التي دارت في نفسـينا والتي اشتدت أثناء الظلام ولكن بددها النور تماما ..
***
     ومشيت متمهلا فى الشـارع الطويل .. ولما عرجت إلى شارع جانبي .. كان نوره خفيفا فاستراحت له نفسي ..
      وعلى رصيف الشارع رأيت سيدة تتحرك أمامى بتمهل ، تسير قليلا ثم تتوقف ، ولا أدرى أنزلت من المترو .. أم من عربة أجرة .. أو خرجت من دار العلاج فى نفس الحي ..
     ولما اقتربت منها أدركت حالها .. نفس حالة المرأة التى وصفها لى الذى يستن السكاكين .. الشلل الخفيف فى الرجل اليسرى . ولم أكن أدرى أهى هى .. أم هذه سيدة أخرى شبيهة بها .. أصبحت بجوارها .. ونظرت إلىّ ونظرت إليها .. كانت تسير خطوات وتتوقف برهة .. فمددت يدى ..
     فقالت برقة :
     ـ إن هذا يعوقنى عن السير أكثر .. يكفى أن تكون بجـانبى ..
     وسرت بجوارها كانت جميلة رشيقة القوام وفى رونق شبابها وفى رواء فى لون العناب .. ومن عينيها يطل الإيناس والسحر ..
***
     وفى بيتها دخلت معها حتى أركبتها المصعد .. ولم تذهب صورتها من مخيلتى أبدا ..




====================================   
نشرت القصة بصحيفة مايو المصرية ـ العدد رقم 13 فى 25/5/1981 وأعيد نشرها فى الكتاب الذى يحمل نفس الاسم عام1983
====================================



عضة الكلب

     فى شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور " حسن بهجت " من القاهرة إلى وحدة صحية فى الريف ..
     وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم فى سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسى والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسى والتطلع الواسع .. وكان فى أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش فى قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشىء لايجد مثله فى الكتب .
     ولما كان غير متزوج فقد أقام فى السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التى تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهى قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشى .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة فى يوم الإثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل الوانها وأشكالها ..
***
     ولاحظ الطبيب الشاب شيئا فى المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس ..
      لاحظ ندبة فى الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح فى وجوه الرجال فقط .. ولم يرها فى وجوه النساء والأطفال ..
     وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة فى وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب ..
     ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله فى استغراب :
     ـ حتى أنت ياشيخ على ..؟
     ـ حتى أنا يادكتور .. لم يترك الكلب رجلا فى القرية إلا عضه .
     ـ الرجال فقط ..؟
     ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء ..
      ـ ومتى حدث هذا ..؟
      ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت
والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة ..
     ـ وقتلتموه ..؟
     ـ أبدا .. لقد كان فى ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذى يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذى كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة ..
      ـ وهل لايزال فى القرية ..؟
     ـ أبدا .. خرج فى ليل ولم نعد نراه ..
     وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة فى الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان فى جسم كلب ..؟
     وأخذ الطبيب يسأل الموظفين فى الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية فى زمن قبله ..
     فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمـع أنها عضـة كلب .. ومرت الأيام وألف من فى الوحدة هذه
الوجوه على حالها .                                  
***
     ولكن الدكتور بهجت .. ظل فى حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة فى رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم فى كل مكان .. قد تكون عضة واحدة فى صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .
***
     وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة فى مسجد القرية الذى يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .
     وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا ..
      مال به الطبيب إلى جلسة تحت المحراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
     ـ وهل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. ياشيخنا الكبير ..؟
     ـ أجل .. يادكتور ..
     ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك .. 
     ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
     ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
     ـ بالطبـع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه " عبد الجابر السحلاوى " وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..
     ـ وما السبب الذى أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقى .. الأقوال متضاربه ..
     ـ الناس يشعرون بالخجل يادكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت فى أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن فى التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عـارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون فى السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يادكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية فى بشاعة .. حتى لاتجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لايصيبه من أمرها مكروه .. فكر فى السلامة لنفسه .. ولم يفكر فى سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..
     لقد كان " عبد الحافظ " مدرسا فى المدرسة الاعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه فى خسـة وضـعف .. أشـفق المسـكين على حـالهم عنـدما رأى " السحلاوى " يستولى على ريع السوق ويتاجر فى سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شىء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا فى ضعف مشين ..
     وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لاتنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا ..
     ولم يرض " عبد الحافظ " بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة " السحلاوى " وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..
     وعلم .. " السحلاوى " .. أن كاتب هذه الشكاوى هو " عبد الحافظ " .. وفكر فى الانتقام منه سريعا ..
     وكان " عبد الحافظ " لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج " حسانين " القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..
     وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة " بالسحلاوى " ومن منزله .. وعند " السحلاوى " كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار فى الليل واقترب من حوش " السحلاوى " ومنزله يخافها لشراستها .. وكان " السحلاوى "
 لايريد اغتيـال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر فى تعذيبه وإذلاله ..
     وفى ليلة من ليالى الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب " عبد الحافظ " ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه " عبد الحافظ " ذات ليلة من ليالى الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه فى المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا ..
   وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى " عبد الحافظ " لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له اطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذى أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش " السحلاوى " فتخاذلوا عن غوث الغريب .  وأخذ " السحلاوى " بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثانى وألقاه جثة هامدة ..
     ولمح " السحلاوى " عين الشر فى عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه ..
     وفى اللحظة التى فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه فى صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..
     وارتعب " السحلاوى " وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..
     ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التى رأيتها فى وجوههم .
     وبعد هذه الحادثة لفق " السحلاوى " تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..
     وسافر " السحلاوى " ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..
     وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه فى وجه الطبيب الشاب ثم قال :
     ـ هـذه هى قصـة " العضـة " التى تراها فى وجـوهنا يادكتور " بهجت " وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
     ـ مع الأسف ياحاج .. لاأستطيع ذلك .. لاأنا .. ولا زميلى الجراح ..
     ـ كيف .. يادكتور .. كيف ..؟
     ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
     ـ بغير جراحة ..؟!
     ـ بغير جراحة ..
     وشكر الدكتور " بهجت " الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى " السحلاوى " والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته ..
***
     ومع دوامة الحياة تصور " عبد الحافظ " أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا فى أعماق النفس ..
     وذهب يسأل عن " السحلاوى " فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجىء بعد ذلك بمن يخبره أن " السحلاوى " حى وفى بلده .. فأشعلت فى نفسه جذوة الانتقام التى حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله فى نفس المكان الذى عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة ..
     وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل فى البستان إلى الساعة التى يختارها فى الليل للتحرك ..
     وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين .. فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة " السحلاوى "..
     وتعجب وقال لنفسه :
     ـ مات " السحلاوى " فى اليوم الذى قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..
     وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .
     وردد لنفسه :
     ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..
***
     ودخل " عبد الحافظ " فى خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التى عضها الكلب .. وتهامسوا ..
     ـ جاء المدرس .. يشترك فى الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..
     ـ إنه نبيل ..
     وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :
     ـ الكلب .. الكلب ..
     وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا فى الغيطان يسابقون الريح ..
      ونظر " عبد الحافظ " فوجد الكلب واقفا على القنطرة التى سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد فى ضراوته ..
      تقدم " عبد الحافظ " نحوه بثبات وناداه :
     ـ تعال .. يامبروك .. تعال إلى صاحبك ..
     واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..
     ووضع " عبد الحافظ " يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..
     فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..
     وانحنى " عبد الحافظ " على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..
     عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون فى صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..





====================================    
نشرت القصة فى صحيفة مايو 20/4/1981  وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين " سنة 1983
=======================================













الساعاتى

اشتريت ساعة بثمانين قرشا من تاجر ساعات مشهور بحى بولاق .. ودفعت ثمنها من أول مرتب قبضته فى حياتى ..
وقد أحببت هذه الساعة واستبشرت بها وظلت تلاصق معصمى سنين طويلة ، ولا تقدم ولا تؤخر .. كأنها ساعة " بج بن " المشهورة بدقة ضبطها دون ساعات العالم أجمع ..
ومرت سنوات طويلة وهى على حالها من التحرك والدقة .. ولكنها أصبحت فى حاجة إلى المسح .. من الغبار الدقيق الذى يتخلل ثناياها وعدتها ..
وكلما مرت الأيام عجبت لها .. ثم استقر فى ذهنى خاطر تملكه باستحواذ عجيب .. أن هذه الساعة ليست ككل الساعات .. إنها متصلة بدقات قلبى بسلك غير مرئى .. فاذا توقفت .. سكنت دقات قلبى ..
وكان هذا الخاطر الذى استقر فى أعماقى على هذه الصورة المثيرة للقلق .. قد تولد فى أغوار نفسى نتيجة لقصة " لهمنجواى " نسيت كل تفاصيلها ..
وظل الخاطر الدفين يرعبنى ، ويشل كل مسالك تفكيرى ، ويسيطر على مشاعرى .. لهذا أصبحت أعنى بالساعة عناية تجل عن الوصف ..
فإذا غيرت الجلدة .. غيرتها بنفسى .. وإذا .. خلعتها مسحت العرق وغبار الطريق عن هيكل الساعة برفق وتأن ..
وذات مرة لم أستطع تغيير الجلدة بنفسى وقال لى الساعاتى وهو يخرم الجلدة بالمثقاب .. بعد أن نظر إلى الساعة :
-          هذه الساعة تحتاج إلى مسح ..
-          مسح .. ؟!
-          أجل .. أنظر إلى الغبار الدقيق فى الميناء .. وما خفى فى الداخل لاشك أعظم ..
-          كفاية الجـلدة الآن .. لأنى مسـافر .. ولا أستطيع الاستغناء عن ساعة وأنا مسافر ..
-          كما تحب ..
وركب الجلدة وأخذت الساعة ومشيت .. مسح ..!! إن الساعة التى تترك للساعاتى مثل السيارة التى تترك للميكانيكى .. والمعدة التى تترك للطبيب ، لعند أول حركة من يد هؤلاء الثلاثة يبدأ الخلل الحقيقى فى جسم الإنسان وفى محرك السيارة وفى عدة الساعة ..
-          مسح .. أبدا .. أبدا .. لن أفعل هذا ..
ولكن شبح توقفها المتصل بضربات قلبى كان يرعبنى .. فغبار الطريق المختلط بالعرق سيوقفها حتما .. وأنا أتحرك برجلى إلى مكان عملى ، ولا أركب سيارة خاصة ، ولا سيارة عامة ..
وقد اشتريت الساعة منذ سنوات طويلة ، فهل يعقل أن تظل ساعة طوال هذه المدة من غير مسح ..؟!
ومرت الأيام والساعة لا تزال تدق .. ولكنها أصبحت تقدم .. ثم اضطرب حالها وأفلت زمامها ..
وذهبت إلى المتجر الذى اشتريتها منه مرتين فى أيام مختلفة فوجدته مغلقا ..
وخرجت من شارع " قدرى " الذى أسكن فيه إلى حى " طولون " وكنت كثير التحرك فيه ، وعلى الأخص فى الليل .. لطراوة هوائه ولكثرة الحوانيت الصغيرة المنتشرة على جانبى الشارع الرئيسى .. وقدرت وجود ساعاتى من بين هذه الحوانيت ..
وسألت صاحب متجر أعرفه وأتردد عليه .. يبيع مختلف الحاجات .. وكنت قد اشتريت منه نظارة شمس جديدة .. فأكرمنى فى ثمنها .. سألته عن ساعاتى يشتهر بدقته فى العمل ..
فقال لى :
-          نعم .. الشيخ طاهر .. إنه أحسن ساعاتى يقع عليه بصرك ..
-          أين هو ..؟
-          سأذهب معك .. إنه فى نفس الشارع ..
-          لا داعى لأن تتعب .. وتترك الدكان .. يكفى أن تدلنى عليه من هنا ..
وأشار الرجل بدقة إلى مكانه ..
ودخلت من بوابة بناية قديمة إلى فناء واسع .. وكان الشيخ " طاهر " فى الطابق الأول من المبنى .. ووصلت إليه بعد أن صعدت عدة درجات لأن البنايات القديمة سقوفها عادة عالية ..
ووجدت الرجل يعمل فى حجرة واسعة ونظيفة . وبها أربعة مقاعد مطعمة بالصدف ، ودكة طويلة عليها حشيات خضراء زاهية فى الركن الأيمن من الحجرة .. وكان المكتب فى مواجهة الباب بعيدًا عن النافذة الوحيدة التى فى القاعة ..
وكان الشيخ " طاهر " يلبس زعبوطا كحليا وطاقية من لون الزعبوط فى أناقة وانسجام .. والمكتب والكراسى والسجاد على الأرض وفى الحوائط .. تشعر المرء بالراحة كأنه فى بيته ..
وكان الشيخ يعمل فى إضاءة قوية .. ووجهه هو أكثر وضاءة من كل أضواء الحجرة ..
كان أبيض شديد بياض الوجه سمينة فى استدارة ملحوظة .. وأحس بى بعد أن أصبحت قريبا منه .. كان مستغرقا فى عمله ..
وقلت :
-          السلام عليكم ..
فرفع رأسه ونهض ورد السلام مرحبا ..
وكان متوسط الطول مثلى  .. ولكن فى جسمه سمنة ظاهرة تختلف مع نحافتى ..
وجلست فنظر إلىّ فى بشاشة ..
وقال بصوت خافت :
-          خيرا ..
فخلعت الساعة من معصمى وقدمتها له ..
فتناولها وقال لى على الفور :
- إنها من عند " هنهايات " وهو يحتكر صنفين من الساعات و " نوملاس" صنف منهما ..
ولأول مرة أسمع اسم صاحب المتجر ..
وفتح الظرف الأول للساعة ثم الظرف الثانى .. ونظر بالمنظار الدقيق إلى العدة ..
وابتسم وهو يقول :
- لابد من تغيير الرقاص .. والرقاص عند هنهايات  .. وهنهايات .. ترك البلاد ..!
وانخلع قلبى ..
وقلت له بصوت واهن متوسلا :
-          ألا يمكن إصلاحه ..؟
-          أبدا .. لقد تعب من كثرة السنين .. وأعطى كل ما عنده ..!
-          ألا يوجد مثله فى متجر آخر ..؟
-          أبدا .. هذا مستحيل ..
وظل على بشاشته ..
فقلت له بضراعة :
- أرجو أن تبحث .. وقد تجد .. إن هذه الساعة تسبب لى الصداع .. كل ما أطلبه هو أن تدق .. ولا تتوقف ..
- تدق ..!! كل ساعة يمكن أن تدق .. ولكن المهم أن تكون مضبوطة .. وإلا فما معنى أن نحمل الساعات فى أيدينا وجيوبنا ..
وحكيت له قصة الفكرة المسيطرة على مشاعرى .. واتصال الساعة بدقات قلبى ..
فضحك وقال :
-          إذا فكرت فى الموت على هذه الصورة فستموت .. تموت حتما ..
-          العمر محدد .. ومكتوب منذ الأزل ..
- ولكن تفكيرك فى الموت بمثل هذا التوهم .. سيكون السبب فى موتك .. كما تموت الأمم إذا فقدت مقومات حياتها .. كما ماتت أمة الرومان .. وأمة الفرس .. وأمم وأمم .. لأنك فقدت القدرة على الحياة .. وستموت فى عمرك لا نقص ولا زيادة .. وقد جعل الله هذا التوهم سببا فى دنو الأجل .. ولهذا أنصحك بأن تنزع هذه الفكرة من رأسك ..
-          ليتنى أستطيع ..
- حاول بكل إرادتك .. وسأبحث لك عن الرقاص.. فى العتبة .. وفى كل مكان فاترك الساعة لى ..
- لا أستطيع تركها .. بسبب هذا الخاطر ..
فابتسم وقال :
-          خلها معك .. وسأبحث عن الرقاص من غيرها .. وتفضل بعد يومين ..
***
وجئت فى اليوم الذى حدده .. ووجدته قد غير لون الزعبوط والطاقية .. كان اللون فى هذه المرة رماديا داكنا .. والقماش أثقل ويتمشى مع حالة الجو .. وكان على حاله من البشاشة والإيناس ..
وسألنى وهو يتناول الساعة :
-          الأستاذ مدرس ..؟
-          نعم ..
-          مدرس علم نفس ..!
-          لا .. مدرس لغة انجليزية ..
-          العمل مرهق ..؟
-          أبدا .. إنها وظيفة اخترتها بمحض إرادتى ..
-          وجهك عليه كل علامات التعب ..
-      من الصداع .. صداع شديد يلازمنى فى الليل والنهار ..
وحدق .. أرسل سهام عينيه إلى أغوار نفسى ..
-          لا تدخن ..؟
-          أبدا ..
-          ولا ..
-          ولا .. ما ذقت الخمر قط ..
وفتح الساعة وهو يقول :
- سننظر فى هذا الصداع بعد أن نفرغ من الساعة .. والآن اشغل نفسك بأى شيء .. تناول كتابا من هناك .. أو تأمل فى هذه الساعة الدقيقة المعلقة أمامك إنها نادرة الوجود .. أو قم وانظر من النافذة ..
ومضى وقت طويل أكثر من ساعتين .. وأنا بين أن أراقبه فى عمله .. أو أتأمل فى الساعات .. أو أتحرك إلى النافذة ..
ورأيته يضع ساعتى على لوح زجاجى وقد فرغ من إصلاحها ويستدير ناحيتى وقال وهو ينهض .. ويمسك بيدى إلى غرفة ملاصقة بعد أن أضاء النور :
-          أتسمح وتسترخى على هذه الكنبة ..
وتمددت مسترخيا .. وتحرك من مكانه .. وأمسك برأسى .. ثم عنقى وكتفى .. وضغط بيديه وفرك فى سرعة عجيبة .. وأحسست بيديه رخوتين .. ثم فى صلابة الفولاذ ..
وقال بصوت الأمر :
-          تنفس وانظر إلى السقف .. دقيقة كاملة ..
وفعلت وأنا كالمأخوذ من شيء لا أستطيع التملص منه ولا دفعه ..
وعاد إلى مقعده وهو يقول :
-          والآن ذهب الصداع ..
وكأنه يسأل ..
فقلت فى شرود :
-          نعم .. زال .. وما الذى فعلته ليزول بهذه السرعة ..
-          قطعت العرق ..
وضحك بطلاقة .. فضحكت مثله .. وأضاف بهدوء وكأنه يلقى موعظة :
-          والمهم ألا تفكر فيه مرة أخرى .. وبذلك نكون قد قضينا عليه ..
ودخلت فتاة من الباب فى أثناء الضحك ولما رأتنى وقفت مترددة على العتبة فقال لها الشيخ " طاهر " :
-          ادخلى يا " أمينة " لقد وجدنا لك أستاذ الإنجليزى الذى نبحث عنه ..
ودخلت الفتاة وجلة وهى تحدق فى وجهى ..
واقتربت منه ، وحدثته بصوت خافت كالهمس ..
فقال بصوت عال :
- لا .. لا .. نساء .. لا .. أنا لا أكشف على عورات النساء .. لقد أخرجت حواء آدم من الجنة .. وأنا لا أريد أن أخرج بسببهن من الدنيا ..
نساء .. لا ..
-          إنها ست كبيرة .. يا أستاذ " طاهر " ..
-          كبيرة صغيرة .. لا .. وأنت تعرفين طباعى ..
ولم ينفع الرجاء .. فقال لها وهى خارجة :
-          اطلبى من الست الوالدة .. أن تأمر لنا بكوبين من الشاى ..
-          حاضر ..
وقال بعد أن خرجت :
- إنى أدرس لها العربى .. وهى فى البكالوريا .. وحضرتك ستدرس لها الإنجليزى ... والدتها من أطيب الناس ..
وفهمت من قوله والدتها أن الوالد رحمه الله أو غير موجود فى القاهرة ..
فقلت له :
- إنى عازب .. يا أستاذى .. ولا أدرس للبنات .. والإنجليزى للبكالوريا .. صعب على مثلى .. فأرجو أن تقبل عذرى ..
- ستدرس لها هنا .. فى الحجرة الثانية التى كنت فيها منذ لحظات .. تحت سمعى وبصرى .. وانزع التصورات من رأسك ..
***
وأصبحت مدرسًا للفتاة فى الغرفة الداخلية المواجهة لمكتب الأستاذ " طاهر " .. وكنا فى شهر مارس .. واتفقت معه على أن أعطيها ثلاث حصص فى الأسبوع ..
ولم أكن خارج حصة الدرس فى المدرسة التى أعمل فيها ، قد درست لتلميذ أو تلميذة .. ولكن الفتاة شجعتنى على المضى فى التدريس لأنها كانت مطيعة وتعمل واجباتها بعناية .. وفى وجهها النضارة التى أحبها فى كل أنثى ..
" لم أكن إلى هذه اللحظة قد شاهدت والدتها سافرة قط .. كانت دائما ملثمة بطرحتها أو خمارها .. ولم أر فيها إلا عينين عسليتين تبرقان فى استحياء الأنثى التى مازالت فى نضارة عودها .. "
أما الشيخ " طاهر " فقد أدركت من كثرة ترددى عليه .. أن فى صنعته وخبرته العجب .. فقد كان يعالج المرضى من الذكور من كل أنواع الأمراض .. ويصلح الساعات والراديوهات وكل ما يتصل بالآلة الدقيقة ..
ولم يكن التليفزيون قد ظهر فى القاهرة بعد .. ولو وقع فى يده لأصلحه فى براعة الخبير الذى لا يجارى ..
ولم أره مع المرضى .. يكتب دواء .. أو ينقع عشبا .. بل كان يعالج بيديه .. ونظرته القوية وإرادته الحديدية .. التى يسلطها على المرضى ..
كانت له نظرة مسترخية آمرة .. فإذا غضب تحول فى لمح البصر إلى أسد يزأر ..
ولم ألاحظ عليه ، وأنا قريب منه ، أنه يأخذ أجرا من مرضاه .. كان يعالج الجميع دون أجر ..
وكان أهل الحى يعللون شفاء المرضى لطيبته وعطفه الزائد على الناس .. واستجابة الله لدعائه ..
أما الساعات والعدد .. فكان يكتفى فيهما بأجر قليل .. ويحدده بنفسه ، ويغضب إذا ساومته ..
وعلمت ممن عاشره أنه كان طالبا ممن يحضرون الدروس فى صحن الأزهر .. ثم تركه لغير سبب ظاهر .. وكان يقول لأصحابه إذا سألوه :
- لن أكون الشيخ العظيم الذى مد رجله فى وجه " الخديو " أثناء زيارته للأزهر .. وقال له وهو يمنحه " منحة " من مد رجله لا يمد يده .. لن أكون هذا الشيخ .. لقد مضى زمانه .. والخير ما أنا فيه ..
وتأخرت عن درس الفتاة حصتين متتاليتين .. فقرع الشيخ " طاهر " بابى ليطمئن .. وفتحت له خادمتى العجوز وأدخلته فى غرفة المكتب .. واستبطأت عليه لألبس بدلتى فلا يصح أن أقابله بالبيجامة ..
وسألنى وأنا أدخل :
-          هل صحيتك من النوم .. آسف ..؟
-          أبدا .. كنت ألبس البدلة .. فلا يصح أن أقابلك فى مباذلى حتى وأنا مريض ..
-          يسرنى هذا السلوك المتحضر .. يا أستاذ " مختار" .. يسرنى بحق ..
ونظر إلى عينى :
-          تشعر ببرد .. ورعشة ..
-          نعم ..
-          هيا نخرج ..
-          وأنا مريض ..؟!
-          لست مريضا .. وسترى ..
وسحبنى من يدى وخرجنا إلى الشارع .. وكان الشيخ " رفعت " يرتل سورة " طه " من داخل قهوة فى الطريق .. فدخلنا لنسمع .. ولاحظ أن الراديو يخشخش فنهض وضبط المفاتيح .. ورواد المقهى ينظرون إلى براعته فى عجب ..
ثم خرجنا نتجول بعد انتهاء التلاوة ..
وكان الجميع يعرفونه ويحيونه فى بشاشة .. ووجدته يضع يده فى جيبه ويخرجها مضمومة ، ويعطى أناسا اعتاد أن يمر عليهم يوميا ويعطيهم ..
وكان يحاول بكل جهوده ألا يجعلنى ألاحظ هذه الحركة .. ولكن اكتشفتها من أول عطاء .. وأظهرت له غفلتى عن فعله هذا ليستريح فى أعماق نفسه ..
وكنت أسمع تمتمة الدعاء ممن يعطيهم .. والشكر والإيناس على وجوه من يمر بهم ويحيهم بيده ولسانه ..
وكانت الحوانيت غامرة والأنوار ساطعة وقاهرة المعز تتنفس فى هدوء من غير زحام ولا صخب ..
ولما عدت وحدى إلى البيت كانت بوادر الحمى قد زالت تماما ..
***
وكنت أذهب لاعطاء الدروس " لأمينة " بعد انتهاء دروس المدرسة مباشرة .. لأجعل للفتاة فرصة طويلة للمذاكرة فى الليل دون تعطيل ..
ولاحظت أن الشيخ " طاهر" يصلح الساعات والمنبهات والراديوهات فى النهار .. ويجعل لعلاج المرضى ساعة واحدة قبل صلاة العشاء .. ولا يغير ذلك ولا يبدله مهما كانت الظروف والأحوال ..
وكان يقول لى :
-          إذا وصلت للدرس قبل موعده .. فلا تشغل نفسك بى .. وقلب فى كتبك ..
وكنت أراه منهمكا فى عمله إلى أقصى مدى .. وإذا اشتغل تفرغ ، ولا يحس حتى بقرع الطبول ..
وذات مرة رفع إلىّ عينا ، قد أتعبها التحديق فى أدق العدد حجما ، وقال :
-          بعد أن تفرغ من " أمينة " ستعطينى أنا الإنجليزى ..
-          حاضر .. ولكن لماذا ..؟ وأحسبك لست فى حاجة إليه ..
- أريد أن أسافر إلى البلد التى تصنع الساعات .. سويسرا ولا أحب أن أركب طائرة أو باخرة ولا أتحدث بلغة غير لغتى ..
ولم تكن الساعات فى ذلك الوقت قد خرجت من سويسرا إلى اليابان وألمانيا .. فقلت له :
-          هذا تفكير جميل .. وأنا رهن إشارتك ..
***
وانقضت أشهر مارس وأبريل ومايو .. وأنا أعطى الدروس " لأمينة " وقلت لها بأنى سأنقطع إلى الليلة التى سيكون فى صباحها امتحان اللغة الإنجليزية .. لأعطيها الوقت الكافى للمراجعة .. واخترت لها ثلاثة موضوعات للإنشاء .. على أن تجعل التركيز على واحد من الثلاثة ..
وخرجت من حصة الدرس فوجدت الشيخ " طاهر " يستوقفنى ويقول :
-          استرح لحظة ..
وصعد إلى فوق .. وعاد يحمل لى عدة جنيهات وضعها فى ظرف مفتوح ..
-          ما هذا ..؟
-          أجرك .. عن الدروس ..
-          أنا لا آخذ أجرا .. لأنك رفضت أن تأخذ منى مليما ..
- وما الذى صنعته لك .. هذه نقود الست " حسنية " وهى ست غنية ، وقد ترك لها زوجها الألوف .. كان من كبار التجار .. والألف عندها كقطرة فى بحر .. فهل تضن على نفسك بشيء تافه كهذا .. وتتصور أنه منى .. إنه منها ولا تقبل هى أبدا أن تأخذ ابنتها دروسا من غير أجر ..
- بعد نجاح " أمينة " سآخذ المبلغ .. أما الآن فلا ..
وتحت إصرارى تركنى أخرج ..
وعدت فى ليلة امتحان الإنجليزى .. وسهرت مع الفتاة وكتبت لها جملا فى موضوع الإنشاء .. ثم تركتها .. وفى نيتى أن أعود فى اليوم التالى .. وأعرف ما كتبت ..
وبعد أن انتهى امتحان الإنجليزى .. اتخذت طريقى إلى منزلها بعد الغروب .. فوجدتها وحدها .. كانت أمها قد خرجت مع الشيخ " طاهر " لشراء بعض الحاجات ..
وابتدرتنى الفتاة صائحة :
-          موضوع الإنشاء الذى كتبته لى جاء .. جاء ياستاذ " مختار " جاء ..
وكانت من فرط السرور تود أن ترتمى على صدرى وتطوقنى .. ولكن وقفت جامدا .. أصدها بلطف .. مع رغبتى الشديدة فى الاستجابة لرغبتها .. ولثم شفتيها وعينيها ..
كنت أشد منها عطشا إليها ، ولكن الشيخ " طاهر " الغائب الآن .. لا يزال أمامى جالسا على كرسيه يعمل .. وهو الذى قدمها إلىّ وعرضنى عليها ، وعلى أمها كرجل مثال الفضيلة والأخلاق .. فكيف أشوه صورتى حتى وإن لم يتعد الأمر قبلة على الخد ..
وجدت صدر الفتاة يعلو ويهبط .. واكتسى وجهها الأبيض بالأرجوان .. واشتد بريق عينيها .. وحركت بيدها سوالفها ..
-          إنها دعوات أمك .. أجلسى .. لأجلس .. تركتنى واقفا طوال هذه المدة ..
وقدمت لى كرسيا .. وخرجت من الحجرة وعادت تحمل كوبا من العصير البارد .. وكانت هى أشد منه برودة فى مشاعرها ..
وثقل وقع الأمر على نفسينا فخلال ثلاثة أشهر متصلة .. كانت هناك شرارة تعمل بين رجل وامرأة .. ولكن مغطاة بالعازل الذى يمنع اندلاع الشرارة .. فلما تهيأ الوقت لاندلاعها وتوهج اللهب .. أخمدناه بقسوة .. بدلو من الماء البارد ..
ودخل الشيخ " طاهر " والست الوالدة يحملان لفات .. وعاد الجو كله إلى طبيعته ..
***
ونجحت " أمينة " فى امتحان البكالوريا .. وسررت لنجاحها أكثر من سرورهما ..
وقال لى الشيخ " طاهر " وكان قد زارنى ليشكرنى على جهدى مع الفتاة :
-          إن الست " حسنية " تدعوك للعشاء غدا ..
وحاولت تأجيل هذه الدعوة أو رفضها ولكنه أصر ..
فذهبت فى الميعاد إلى مكتب الشيخ " طاهر " أولاً ، ثم صعدنا إلى شقة الست " حسنية " فى الدور الثالث ..
ولأول مرة أراها سافرة .. فى نضارة وغضارة .. وكانت بيضاء ممتلئة الجسم حلوة .. وفى عينيها سواد شديد يتوهج وينطفئ فى لحظات .. كأن فى بؤرة العين ماسا كهربائيا .. غير مرئى لأحد وكانت الشقة مسترخية وجميلة .. وتدل على عيش ناعم .. وكان الرجل الذى يتاجر فى الحرير .. مغرما بالطنافس والخزف الصينى .. وفازاته الجميلة .. وقال لى الشيخ طاهر .. إنه كان من أبناء عمومة المرحوم .. وهبط القاهرة مع الأسرة الصغيرة معا من المغرب وهم صغار .. وظل الشيخ " طاهر " ملازما للمرحوم زوج الست " حسنية " إلى أن مات .. وتعلم منه الأمانة فى العمل وحسن استقبال الزبون .. وأصر على أن يسكنه فى بيته ... ولم يكن يحب أن يؤجر من طوابقه الثلاثة شيئًا لساكن غريب .. وأنه أوصاه قبل موته ليرعى زوجته وابنته الوحيدة ..
وقد وفقه الله إلى هذه الرعاية .. فما ينقصهما أى مطلب من مطالب الحياة .. حتى بعد أن أغلق المتجر .. لأن الرجل ترك لهما عمارة فى العباسية تدر من الخير ما يجعلهما يعيشان فى يسر ..
وتحركت الست " حسنية " فى ثوبها الأسود الجميل .. وتحركت وراءها الخادم " زكية " التى فى سن ابنتها تعدان المائدة ..
وظلت " أمينة " جالسة معنا تحيى وترحب ..
وسألنى الشيخ " طاهر " عن سبب معرفتى موضوع الإنشاء .. فقلت له إنى خمنته من جو الأحداث الجارية .. بعد أن استبعدت كل الموضوعات التى طرقت فى السنين الماضية .. ولقد صدق حسى ..
وأكلنا كثيراً رغم حرارة الجو .. فقد كنا فى وهج أغسطس ..
وتبادلت النظرات مع الست .. وكنت أود أن أعرى عواطفها وأكشف مكنون قلبها ، وأهتدى إلى العلاقة التى بينها وبين الشيخ " طاهر " وهما فى سن متقاربة ويضمهما بيت واحد منذ خمسة عشر عاما .. وهل هى فقط واقفة عند حد القرابة التى بين الشيخ طاهر وبين زوجها ..
ولكننى أدركت شيئا واحدا .. هو أن نظرات المرأة بعد أن نجحت ابنتها قد اتجهت إلىّ بشيء فيه من رقة الأمومة وحنانها الشيء الكثير .. وليس مجرد نظرة الأم إلى أستاذ لأبنتها ..
كنت فى نضارة شبابى .. وكانت فى الخامسة والأربعين أو أكثر قليلا فطابع الأمومة طبيعى فى مثل هذه الحالة ..
***
وبدأت بحنان الأم أو رد المعروف ترسل لى مع خادمتها " زكية " الأطباق الشهية .. ولم أستطع رد هذه الأطباق مع كونها تضايق خادمتى التى كانت تقول لى بغيرة قاتلة أنها تستطيع صنع أحسن منها ..
وأصبحنا نحن الأربعة نتحرك فى الليل فى جو الصيف الحار .. ونخرج إلى منتزه عام كبير فى شارع " قدرى " ونجلس على العشب فى ضوء القمر .. وكان كل من فى الحى يتصور أن الشيخ " طاهر " قد تزوج الست " حسنية " بعد المرحوم زوجها .. وأنا زوج " أمينة " ..
***
وبدأ الخريف .. ودخلت " أمينة " الجامعة كرغبتها .. وانشغلت بدروسها .. كما شغلت بالتدريس ..
***
        وحل الشتاء ببرده وانغلاقه ..
وذات ليلة .. حلم الشيخ " طاهر " أن فتاة جميلة جاءته من حى الخليفة ، وهى فى حالة إعياء شديد ليعالج حالتها وينظر فى أمر مرضها .. وكان معها أبوها ونفر من أقاربها .. ركبوا عربة ووقفوا على بابه يقرعونه فى عنف .. وكانت الساعة متأخرة من الليل ..
وفتح لهم ولما تبين مطلبهم قال لهم :
-          إنه لا يعالج النساء ..
فأخذوا يستعطفونه .. ويلحون عليه .. ووقع نظره على الفتاة فرآها فى جمال آسر .. وجسمها مع الإعياء يغرى بالاشتهاء .. فقبل توسلهم ..
وأدخلها فى الغرفة الداخلية وأبقاهم خارجا .. ورد عليه والفتاة الباب ..
ونظر إلى جمالها وفتن به .. وأخذ يزيح عنها ملابسها الداخلية قطعة قطعة .. وفى عينيه وهج الشهوة ..
ولما أدركت الفتاة غرضه قاومته بعنف .. ولكنه تغلب على مقاومتها وحقنها بمخدر .. ليغتصبها .. وظلت مع المخدر تصرخ ..
وسمع فى الخارج صراخها .. فدخلوا عليه وأوسعوه ضربا ولطما ..
وتجمع الناس فى الشارع يصيحون : المخادع الدجال .. وكان الصيادلة .. وثلاثة من أطباء الحى على رأس هذه الجموع .. وتحركوا حتى وقفوا على بابه يصرخون .. واستيقظ من هذا الحلم الرهيب وهو يصرخ ..
استيقظ على صراخه .. وسمع صرخة فى داخل البيت لا فى خارجه كما صور له الحلم ..
فهرول مسرعا إلى السلم .. وهناك رأى شبحا فى البسطة .. ولما اقترب منه الشيخ طاهر .. أشهر الشبح فى وجهه مطواة حادة وبسرعة رهيبة حاول طعن الشيخ فى صدره ..
ولكن الشيخ " طاهر " بحركة أسرع رد يد الشبح عنه وطواها .. وتلاحما ..
ودفع الشيخ " طاهر " الشبح بعنف وألقاه بضراوة على السلم فارتطم رأسه بالحاجز .. وسقط على الأرض جثة هامدة ..
***
وجلس الشيخ طاهر على بسطة السلم ساكنا فى الظلام .. لم يقو على فتح النور ..
جلس مرعوبا يقول لنفسه :
-          لقد جعلتنى الأقدار .. قاتلا .. فأين أذهب مما هو مقدر لى .. وأين أروح ..
وفتح النور .. فرأى الثلاث نساء واقفات فوق .. متخشبات يصرخن ..
وكان يود أن يسألهن .. أيهن .. المعشوقة للشاب الذى قتل .. الست أم ابنتها .. أم الخادمة ..
جاء يسرق فى الليل .. ربما .. فالست عندها ذهب كثير ..
***
وتجمع الناس فى الشارع هذه الليلة كما رأهم فى الحلم .. ولكن أحدا منهم لم يستطع أن يسمع الشيخ كلمة سوء ..
وظلوا فى حيرة فالشاب لم يكن من لصوص الحى .. ولم يعرفه أحد منهم .. فهل هبط من تلال زينهم كما يهبط الضال الشريد ولقى مصرعه على هذه الصورة .. كما حكم القدر .. وانتهى الأمر ..
ولكن ما ذنب الشيخ " طاهر " المسكين حتى تكون نهاية تعبه وكده فى الحياة ورعايته للناس .. على هذه الصورة البشعة .. قاتل من غير أن يفكر فى القتل ولا يعمل له حسابه .. ولا يخطر على باله .. فأى شقاء وأى حياة ..
ترك الشيخ " طاهر " الناس فى حيرتهم .. وذهب وحده إلى القسم ..
***
علمت أنا بالخبر فى الصباح .. وأسرعت إلى القسم .. وقابلت الشيخ " طاهر " ووجدته شاحبا وقلقا ..
وروى لى الحلم بالصورة التى ذكرتها ، وكل ما حدث له بعد أن صحا من النوم .. وكيف صارع الشاب دفاعا عن نفسه ..
وختم حديثه قائلا فى سخرية :
-          وأنا كما ترانى ويرانى الناس .. قاتل .. قاتل ..
فقلت له :
- إنك لم تقتل أحدا .. والشاب أماتته حواجز السلم .. عندما اصطدم رأسه بها .. وكل ما فعلته هو الدفاع عن النفس ..
- أرجو ألا تغرقنى فى متاهات ومخارج قانونية .. لقد مات الشاب بسببى .. وأنا الذى دفعته بيدى .. فسقط ومات ..
- إن تفكيرك هكذا سيؤذيك .. تجرم نفسك وأنت برئ .. لقد ظللت طول حياتك تعالج أمراض الناس ..
فهل تعجز الآن عن معالجة نفسك ..؟!
فأطرق صامتا ..
وقلت له لأخفف وقع الأمر على نفسه :
- بعد أن يرد تقرير الطبيب الشرعى .. ستفرج عنك النيابة .. والمهم الآن هو الطعام .. وسأحمله بنفسى ..
- المهم أن أراك لا تتركنى للمقادير .. يا مختار ..
وخرجت من عنده أبحث عن محام .. أضع فيه كل ثقتى ليطلع على التحقيق .. الذى أجراه البوليس .. وأجرته النيابة ..
وفى الظهر حملت له الطعام .. وكذلك بعد الغروب .. وكنت أدفع أضعاف أضعاف ثمنه ليصل إليه سالما .. أما بياته فى القسم .. فقلت أنها ليلة واحدة .. سيقضيها على أى وجه من الوجوه .. وفى الصباح بعد تقرير الطبيب الشرعى إما أن ينقل إلى السجن أو يخرج إلى البيت ..
***
وتعبت فى النهار والليل من المشاوير ومن حزنى الشديد على الشيخ طاهر البريء .. المنزه من كل سوء .. والذى وضعت الأقدار فى طريقه هذا البلاء لامتحانه وصهر معدنه ..
ودخلت بيتى .. فوجدت الخادمة قد وضعت لى طعام العشاء على المائدة وغطته .. وذهبت إلى بيتها لعيالها .. بعد أن أدركت أنى سأتأخر ..
وخلعت ملابسى .. واغتسلت من تراب وتعب النهار كله ولم أجد فى نفسى شهية للطعام .. فدخلت غرفة نومى لأقرأ ..
ولكن القلق على الشيخ جعل الحروف تتراقص أمام باصرتى .. فأغلقت عينى لأغفو .. أو لأسترجع الهدوء لأعصابى ..
وسمعت رنينا للجرس تبعه طرق خفيف على الباب فنهضت واتجهت إليه ..
وفتحت الباب .. فوجدت " الست حسنية " وجدتها على العتبة .. وكانت على حالة من الشحوب والبكاء أوجعت قلبى ..
ودخلت صـارخة تولول .. وأغلقت الباب والنوافذ لأمنع صراخها من التسرب للخارج ..
        وانتابتها حالة صرع .. فأمسكت بذراعها .. وسحبتها إلى الفراش لتستريح عليه ، وتأخذ نوبتها من البكاء .. ولكنها ظلت فى حالة صرع وتشنج .. فأخذت أضرب بلطف على خديها .. ثم فككت ثوبها وحمالة صدرها ، وأخذت أدلك عنقها وكتفيها ، وأنظر إلى عينيها وقد تحول سوادهما إلى بياض ..
واغرورقت عيناى بالدمع وأنا ألثم ثغرها وخديها بعد أن أدركت أنها ستموت فى فراشى .. وطوقتها وسمعت ضربات قلبها .. ونامت ..
***
ولما فتحت عينيها قالت بصوت خافت :
-          لماذا فعلت هذا ..؟
-          إن هذا أخف من قتلى أول شخص أصادفه فى الشارع ..
-          ولكنك قتلت اثنين ..!
-          وما حيلتى .. لقد دخلت دون أن أقدر .. فى قلب العاصفة ..
وظلت مطرقة وصامتة .. ثم سمعتها تقول :
- ما الذى فعلته لطاهر المسكين .. إنه لا يتحمل عذاب السجن يوما واحدا .. لابد من خروجه الليلة ..
-          ومن الذى يخرجه ..؟
-          أنت ..
- أنا ..؟! أنا يا سيدتى لا أعرف وزيرا ولا خفيراً .. فى هذا البلد .. ولابد أن يسير التحقيق فى مجراه .. وأنا كنت عنده وهو فى خير حال ..
-          كنت عنده ..؟
-          نعم وحملت له العشاء ..
-          حدثتنى أمينة بأنك ستفعل هذا ..
-          وأين هى ..؟
-          تركتها فى البيت مع " زكية " .. فى أسوأ حال ..
وسألتها وأنا أحدق فى عينيها :
-          هل تعرفين الشاب ..؟
-          أى شاب ..؟!
-          الشاب الذى مات فى بيتك ..
-          أبدا ..
-          إن شكله لا يدل على أنه سارق ..
-          يدل على ماذا .. إذن ..؟
-          يدل على أنه عاشق ..
-          العاشق لا يحمل مطواة بنصل حاد .. وهو يزور معشوقته ..
-          منهم من يحمل هذه المطواة ..
-          وما هو غرضك من هذا التخريف ..!
- قصدى أن أقول لك .. أن الشيخ طاهر ظل طوال هذه السنين يحبك ويكتم عواطفه ..  وانفتح مرجل كتمانه .. على الشاب لما رآه على بابك .. ولغيرته الشديدة دفعه دفعة الموت ..
- تفكير جميل لأستاذ ومعلم ..
- إنى أقرر الحقيقة .. ماذا يفعل رجل ظل معك خمسة عشر عاما تحت سقف واحد .. ماذا يفعل غير هذا ..
- الشيخ طاهر .. ابن عم المرحوم زوجى .. وهذا عاش معنا ليرعانا لا ليكون عاشقا ومتيما .. كما تتصور .. وكنا سعداء معه لطهارته .. ولم أشعر قط بفراغ بعد زواجى .. لوجوده معنا .. كان يقوم بكل شيء والآن هو غير موجود .. فكيف أذهب إلى البيت .. وأنام فيه وحدى مع فتاتين .. مسكينتين .. " أمينة " و " زكية " لابد أن تذهب معى الليلة .. إلى هناك .. لتحمينا من شر الليل والناس ..
- أذهب معك ..؟
- نعم ... وأول إنسان فكرت فيه هو أنت ..
وبكت بحرقة ..
وارتديت بدلتى .. وخرجت معها لتواجه الليل والناس ..
وكان الناس ما زالوا يتحركون فى الطريق رغم هدأة الليل .. وكلما مر بجوارنا شخص ازدادت منى قربا ..





========================== 
نشرت القصة فى صحيفة مايو بالعدد 21 بتاريخ 20/7/1981 وأعيد نشرها فى " كتاب السكاكين " سنة 1983
========================= 















المهاجر

     الدكتور " صبحى " طبيب أسنان كهل يعيش وحيدا فى المنزل رقم 105 فى شارع سيدى جابر بمصر الجديدة .. عيشة رضية خالية من أمراض الشيخوخة ومتاعبها ..
     واتخذ الطابق الأول من المنزل للعيادة والسكن معا .. أما الطابق الثانى فكان يسكنه شاب فى الثلاثين من عمره ويشتغل موظفا فى احدى الوزارات ..
     والطبيب والموظف من العزاب وقد جمعتهما العزوبة فى بيت واحد فى شارع هادىء .. قليل الحركة خفيف الضوء ..
     واتخذ الطبيب لنفسه نهجا منذ جاوز سن السبعين .. فقد خفف من عمله كطبيب وأصبح لا يستقبل إلا القليل النادر من مرضاه وكانوا يأتون إليه فى فترات متباعدة فى الصباح والمساء ..
     ومنذ سنوات طويلة وهو يفكر فى السفر إلى الخارج كمهاجر ويعيش فى " لندن " فقد تعب من كد الحياة وأراد أن بذهب إلى هناك ويستريح من كل عمل ..
     وعندما فرضت الحراسة على بعض الأفراد ضاعت الثقة بينه وبين البنوك فسحب أمواله من البنك الذى يتعامل معه وأودعها فى بيته واختار لها مكانا تصور فيه الأمان المطلق وهو أن يحشرها بعد وضعها فى ظرف كبير .. بين مراجعه العلمية فى مكتبته ولا أحد يفكر فى سرقة الكتب ..!
     وأخذه الوسواس فكان يطمئن على هذا الظرف وما فيه من نقود فى الصباح والمساء وقد ربط كل الف جنيه فى ضمة واحدة ليسهل عليه العد والمراجعة ..
     وكان قرار السفر قد جعله يستعجل كل الأمور .. كما كان من عادته أن يزور " لندن " كل عام وبقضى فيها شهرين على الأقل .. لأنه قضى فيها سنين الدراسة وهو طالب وله فيها من المعارف المصريين ما يؤنس وحدته ..
     ولكنه أجل السفر فى هذا العام بعد أن قرر الهجرة إليها نهائيا واختار فى ذهنه الحى الذى سينزل فيه .. والبيت الذى سيأويه ..
     واضطر وهو الطبيب المثقف الذى يؤدى عمله بكل أمانة أن يلجأ إلى وسيط ليستطيع أن يهرب كل المبلغ الذى معه بعد أن صفى جميع أعماله ..
     وفى أثناء الدوامة التى انشغل فيها الطبيب مع كبر سنه لاستخراج اجراءات السفر وتصفية أموره .. جاءته قريبة له من " المنصورة " لتزوره لما علمت باعتزامه الهجرة ..
     وأثناء صعودها سلالم البيت وجدت شابا يخرج من عيادة الطبيب فلم تكلمه لأنها حسبته من المرضى كما حسبها هو ..
     ولما دخلت هى العيادة وجدت الدكتور " صبحى " فى مكتبه جالسا على كرسيه ولكنه مخنوق وحسبته أولا مغمى عليه .. ولما تبينت موته صرخت .. وجاء الناس على صراخها من الشارع على قلتهم .. وحدثت الناس والبوليس بالشاب الذى رأته يخرج مسرعا من العيادة وهى داخله ..
     كما روت للبوليس أن الدكتور صبحى كان يحتفظ فى بيته بكل أمواله بعد سحبها من البنك .. ووجدت المكتبة والأوراق والكتب مبعثرة .. والنقود مسروقة ..
     ولما كان القتل قد حدث للسرقة وليس لشىء آخر .. فقد أخذ البوليس يراجع أسماء المترددين على العيادة فى الأيام الأخيرة وكان الطبيب يقيد الأسماء والعناوين بدقة وعناية ولم يتعد عدد هؤلاء ثمانية أشخاص .. وبعد سؤالهم بعدت عنهم الشبهة ..
     وحددت الشبهة فى الشاب الذى رأته السيدة " مديحة " قريبة الدكتور وهى طالعة السلم ..
     وكان هذا الشاب هو آخر من تحرك وشوهد وأعطت أوصافه .. وتبين أنه الساكن الوحيد فى المنزل ويقيم فى الطابق الذى فوق الطبيب .. ولا طوابق بعده ..
     ولما عرض عليها مع صف من الشباب فى مثل سنه .. أخرجته من بين الصفوف ثلاث مرات ..
     وطالت الاجراءات وظل الشاب فى الحبس .. مع أن بصماته غير البصمات التى وجدت فى المكتبة التى سرق منها المبلغ .. كما أن تفتيش بيته لم يسفر عن شىء له علاقة بالحادث .. والتحريات عنه دلت على أنه مثال الاستقامة والأمانة فى عمله وسلوكه الخارجى ..
     ولكن شهادة السيدة " مديحة " كانت قوية ضده .. فهو آخر من شاهدته خارجا من باب العيادة وهى طالعة السلم كما كان مسرعا ومضطربا ..
***
     وكانت هناك شغالة تنظف عيادة الطبيب وبيته كل صباح وهى فى الوقت نفسه ممرضة فى مستشفى الدمرداش .. وتأتى مبكرة جدا لتستطيع أن تزاول عملها فى المستشفى بعد ذلك فى المواعيد المحددة لها واستجوبها البوليس وفتش بيتها ثم أخلى سبيلها بعد أخذ بصماتها ..
     واعتاد الطبيب أن يتناول طعامه من مطعم قريب وكان عامل المطعم يأتى له بطعام الغداء .. فى الواحدة والنصف بعد الظهر .. وطعام العشاء بعد الساعة الثامنة مساء ..
     ولكن الطبيب بعد أقل من ثلاثة أشهر استغنى عن هذا المطعم لأنه وجده يغش فى أصناف اللحوم وبعض الأصناف الأخرى دون رقيب وأخذ الدكتور يخرج بنفسه فى ساعة الغداء والعشاء ويختار ما يروقه من المطاعم ..
     ولكنه فى اليوم الذى مات فيه أحس بتعب شديد ولم يستطع النزول ليأكل فى الخارج فاضطر أن يطلب طعام العشاء بالتليفون من المطعم الذى كان يتعامل معه من قبل ..
     وجاء عامل المطعم يحمل الصينية وصعد السلالم فى الليل ووجد باب العيادة مفتوحا فدخل وألفى الطبيب جالسا على كرسيه فى حالة استرخاء فحسبه نائما ووجد درج المكتبه الذى على يمينه مفتوحا وتطل منه أوراق وكان العامل يرى الطبيب من قبل يفتح هذا الدرج ويقفله كثيرا فاقترب منه وأزاح مجلدا طبيا باللغة الإنجليزية غطى سطح الدرج .. وبرز الظرف .. وبحلق مذهولا فقد تكشفت له الأوراق المالية فى صفوف ..
     جحظت عيناه وكف وجيب قلبه وتحول إلى الدكتور فألفاه لايزال مستغرقا فى نومه .. حدق فى وجهه طويلا .. ثم سحب سريعا الفوطة التى كانت على صينية الطعام ولف بها عنق الطبيب وضغط وأخرج حزم الجنيهات من الدرج بظرفها ووضعها فى صندوق أدوية ودلق الطعام الذى جاء به للطبيب فى صندوق الزبالة حتى لا يثير الشبهات .. ووضع صندوق النقود على صينية الطعام وغطاها بالمفرش .. ونزل سريعا .. وكان فى حالة فزع أولا .. ثم وقف على السلم قليلا ليستكن ويسترد أنفاسه ..
     ووجد بائع كشك فى مواجهة البيت ينظر إليه .. ثم يسأله لما وجد الصينية كما هى مغطاة بالمفرش .. لأنه لم يكن من عادته أن يغطيها بعد الأكل .. وكان يطوى المفرش ..
     سأله بائع الكشك :
     ـ الم تجد الدكتور .. يا شعبان ..؟
     ـ لا .. وجدته ..
     ـ وأكل ..؟
     ـ نعم .. أكل سريعا .. الظاهر .. عنده مشوار ..
     واضطر أن يجارى بائع الكشك فى حديثه .. وأن يشترى منه زجاجة عصير .. ويشربها وهو واقف وعلى رأسه الصينية وسأل نفسه متعجبا لماذا يسألنى هذا الوغد هذه الأسئلة الآن ..؟ وما وجه إلىَّ من قبل سؤالا قط ..
     ولما دخل بالصينية المطعم .. لم يجد صاحب المطعم .. ووجد الفتاة العاملة على الخزانة فأعطاها المبلغ الذى اعتاد الطبيب أن يدفعه لعشائه وقال لها أنه يشعر بالتعب وذاهب إلى البيت لينام .. وسيعود مبكرا فى الصباح ..
     وسار فى شوارع مصر الجديدة فى الليل وهو يفكر فى المكان الذى سيخبىء فيه الصندوق .. فلو أخذه إلى البيت فسيراه زوج أمه ويضربه ويستولى عليه .. وإذا حمله إلى بيت رفيق له لم يأمن شره ..
     وكان قد بصر بكوم عال من التراب عند مساكن الألف مسكن والمكان قريب أيضا من سكنه فاستقر رأيه على أن يدفن الصندوق فيه ..
     وذهب إلى المكان وكانت الاضاءة معدومة فيه والظلام يخيم .. ووضع الصندوق جانبا وعاينه ولكنه رآه قريبا من مساكن الرحل الذين يجمعون الأوراق والحشائش على الحمير فى أحياء مصر الجديدة ويفتشون فى الأرض وينبشونها فخاف من شرهم وعدل عن هذه الفكرة ..
     وشل تفكيره تماما وهو يحمل الصندوق بعيدا عن المكان الذى اختاره وعن بيته .. ان هذا الوحش الذى فى البيت والذى يضرب أمه فى الصباح والمساء لأنها دنست فراش أبيه وتزوجته ويضربه هو ويستلب منه أجره اليومى من المطعم ليس من الصواب أن يقترب منه ويراه مرة أخرى وسيفر منه الآن إلى الأبد ..
     وأخيرا هداه تفكيره أن يذهب بالصندوق إلى خاله فى " طنطا " ..
***
     ونزل من الأتوبيس ودخل محطة مصر وبيده الصندوق وكان الليل قد انتصف والأنوار متألقة فى الداخل والخارج وسأل عن قطار مسافر إلى " طنطا " فقيل له أنه لايوجد إلا قطار الصحافة وهو يتحرك فى الساعة الثالثة صباحا فجلس على قهوة هناك عند مكان قطع التذاكر ..
     وكانت القهوة مزدحمة بالمسافرين إلى بحرى وقد وضعوا لفائفهم وسررهم وأقفاصهم بجانبهم ومنهم من نام فى مكانه وكان هناك بعض النسوة المسافرات بأطفالهن على صدورهن وبين أرجلهن وقد تجمعن فى ركن واحد على البلاط .. ومنهن من مدت رجلها وظهر خلخالها الفضى .. ومنهن من جلست متربعة ومنديلها يغطى شعرها .. بعد أن حسرت عنها الطرحة من شدة حر شهر يوليو الخانق .. 
     وكان الهواء راكدا فى القهوة مع أنها غربية وبناية المحطة لا تحجب عنها الهواء ..
     وكان عامل القهوة يحمل كوب الشاى الأسود لكل الناس من يطلب ومن لايطلب .. بمجرد جلوسه على كرسى القهوة يأتى له بالكوب .. باردا .. أو ساخنا هذا لايهم .. ومر باعة السجائر بكثرة من بين الكراسى .. وباعة الطعام الجوالة فاشترى شعبان منهم وتعشى وقد شعر بنهم شديد فأكل رغيفين وطعمية وبيضة ومع هذا ظل شاعرا بالجوع ..
     وشاهد وهو جالس رجلا يشترى " سبتا " من امرأة تبيع " السبات " خارج بوابة المحطة .. ففكر أن يضع فيه الصندوق ويكون أوفق وأضبط فى حمله واشترى " سبتا " من المرأة بأقل مساومة فقد كان يبحث عن الشىء الذى يريحه فى السفر .. وباعت المرأة ثلاثة أسبته أخرى لبعض الجالسين فى القهوة ..
     ووجد " شعبان " نفسه بعد أن اشترى " السبت " ليس معه نقود يقطع بها تذكرة السفر .. ففكر أن يخرج ورقة بعشرة جنيهات من الصندوق .. أول ورقة فى ربطة على السطح .. ولكن كيف يخرجها أمام الناس ..
     فمنذ دخل القهوة وهو يشعر وسط هؤلاء المسافرين بالأمان المطلق وبعدت عن رأسه كل الهواجس التى كانت تطن فى رأسه وتطارده فى المترو والأتوبيس والشارع إنه هنا وسط هؤلاء الناس من طبقته من ركاب الدرجة الثالثة فى كل قطار .. إنه هنا فى أمان مطلق ومسافر فى غير رجعة إلى مكان لاتقع عليه عين البوليس ولا عين الشيطان نفسه إذا فكر الشيطان أن يطارده ..
***
     حمل " السبت " بعد أن وضع فيه الصندوق وخرج من القهوة ولف إلى الشمال ودخل من البوابة الكبيرة التى تدخل منها العربات وجلس تحت الباب المزخرف المعد لكبار المسافرين .. وبعيدا عن أعين الناس وضع يده فى داخل الصندوق وأخرج بحذر وخفة ورقة بعشرة جنيهات .. طواها بسرعة فى جيبه .. وعاد كما كان إلى القهوة ..
     وبعد كل نصف ساعة كان يطلب الشاى ليظل متيقظا فى مكانه هذا فلو نعس فسيفقد كل شىء ..
     ومرت لحظات رهيبة على عقله الممسوخ .. كانت فرحته بهذا المبلغ الكبير الذى يحمله .. والذى أصبح ملكا له قد أبعدت ذهنه المريض عن كل تفكير مما فعله فى الطبيب المسكين عندما طوى على عنقه الفوطة فى لحظة خبل .. الطبيب الذى كان يجزل له العطاء بعد كل وجبة ويعطيه بالعشرة قروش والعشرين قرشا وأكثر من هذا البقشيش ويعالج ألم أسنانه وأسنان من يعرفه دون أجر على الاطلاق ..
     ما فعله الطبيب من خير وحسنات لم يخطر على باله .. ولم يفكر فيه بعقله الملوث قط .. مادام قد هرب وأفلت من التجريم فإن ذهنه لا يندم على شىء شرير فعله أبدا ..
     إن الندم لايدور فى ذهن هؤلاء الناس أبدا .. والخوف من العقاب يأتى من الخوف من البوليس والوقوع فى قبضة القانون .. وغير ذلك لا شىء .. ولهذا يعودون إلى الجريمة ويكررونها بعد استعذاب وقعها فى نفوسهم ..
***
     وجد الجمهور يقف على الشباك ليقطع التذاكر .. فوقف معهم .. ولما جاء دوره أخرج الورقة ذات العشرة جنيهات .. فبحلقت فى يده العيون ..
     ورأى الورقة شخص كان لايزال جالسا على القهوة فظل فى مكانه يرقب بعين الصقر فريسته قبل أن تفلت منه ..
***
     ودخلت الجموع المحطة لتركب القطار .. وكان الزحام على أشده .. فهناك أناس يركبونه ليدخلوا المدن فى الصباح الباكر مع الشمس .. وينجزوا عملهم ويعودوا إلى بيوتهم فى نفس اليوم .. دون حاجة إلى الفنادق والمصاريف الأخرى .. وهناك الذاهبون إلى البحر .. وهناك .. وهناك غيرهم ..
     وعندما صعد " شعبان " إلى العربة كان كل من حوله من الصاعدين يحمل " سبتا " مثله ..! وبشق الأنفس كان قد استوى فى بطن العربة ولكن " السبت " أفلت من يده .. ثم عاد وأمسك به فى قوة ..
     وعندما جلس أمسك به أيضا وشد من قبضته عليه ..
     ووجد بعض الركاب والجنود يجلسون فوق الرفوف العلوية المعدة للحقائب والأمتعة .. وعلى الحواجز وقفوا .. ومن الشباك دخلوا .. وفى لمحة عين تحولت العربة إلى مركب ..
     وتحرك القطار وأخذ الباعة الجائلون يجلجلون بالجرادل المملوءة بالزجاجات .. والمقاطف المحشوة بالطعام ويتحركون كالمردة فى بطن العربات ..
     كان القطار يخرج من جو القاهرة الخانق فى ليل يوليو وهو يزفر .. كأنه يزمجر صارخا على مافعله وصنعه فيه الإنسان .. عندما أفسد عرباته ومقاعده ومقابضه ومصابيحه وأفسد طبعه أيضا ..
     وكان هناك انسان واحد نزل من القطار وهو يتحرك قبل أن يخرج من دائرة الرصيف ..
     وكان يسير وحده على ضوء المصابيح القوية خارجا من المحطة وبيده سبت ..
     وكان السبت خفيفا ولكنه كان يعرف محتوياته ..
     ومن الجذب والشد فى زحمة القطار برزت من الصندوق .. ورقة فى المجلد الطبى الإنجليزى .. كانت على السطح ..
     وكان البهلوان يرقب عقرب الساعة فى محطة كوبرى الليمون وفى ذهنه خاطر جديد ..
     كان فى أشد حالات الغبطة لأنه لم يبذل إلا أقل جهد فى هذه المرة ومع ذلك ظفر بأكبر غنيمة حصل عليها فى حياته .. وتحرك عقرب الساعة كما تحرك هو ..
***
     وفى الأسبوع الذى أفرج فيه عن الشاب الذى أتهم فى هذه الجريمة وهو برىء طرقت " مديحة " هانم بابه .. وفتح لها واستقبلها بوجوم ..!
     وقالت له فى خجل :
     ـ أتسمح بدقيقة من وقتك ..؟
     ـ نعم ..
     ـ جئت أعتذر .. فلم أكن أعرف أنك تسكن هنا فوق المرحوم .. وكان الحادث مفاجئا لى وبشعا وأرجو أن تعذر ظروفى ..
     ـ أنا يا سيدتى أعرف عذرك .. ولا داعى لتعبك والمسألة انتهت ..
     ـ أبدا .. لقد سببت لك الكثير من المتاعب ةدوالآلام النفسية .. ولا أدرى كيف أمحو أثر هذا من نفسك وأرجو أن تسمح لى الآن بأن أدخل دقيقة ..
     ـ أنا يا سيدتى أعيش وحدى ..
     ـ وما دخل هذا فى مجرد الكلام ..؟
     ـ دخولك فى شقة عازب سيعرضك للأقاويل والمسألة انتهت كما قلت ..
     ـ أظن أنه ليس من الذوق أن ترفض استضافة سيدة أكبر منك سنا ..!!
     ودخلت .. وكانت فى رداء أسود محكم التفصيل أبرز تقاطيع جسمها وأكسب وجهها الأبيض نضارة فوق نضارته .. وأخذت الشقة بنظرة سريعة وقالت برقة :
     ـ ولكن شقتك جميلة ومرتبة ولابد أن يد أنثى هى التى تعمل كل هذا ..
     ـ أبدا إنى أنظفها وأرتبها بنفسى ..
     ودخل المطبخ وعاد بكوب من عصير الليمون فتناولته منه شاكرة .. وقالت :
     ـ أكنت تعرف المرحوم ..؟
     ـ كان من أعز أصدقائى .. وقد حزنت على مقتله كما لم يحزن إنسان .. ولو رأيت هذا المجرم لقتلته والنفس بالنفس ..
     ـ إن الدكتور لم يقتل ..
     ـ كيف .. هذا أغرب خبر أسمعه ..؟
     ـ الدكتور كان ميتا .. عندما دخل عليه عامل المطعم بالصينية .. وقد حسبه نائما .. وأغراه المال الذى رآه .. أغراه بالقتل والسرقة .. وحسب حساب الوقت قبل أن يصحو الدكتور .. ولهذا أسرع ووضع فى عنقه الفوطة ليجهز عليه .. ولكنه فى الواقع .. كان ميتا منذ عشرين دقيقة ..
     ـ ومن أين عرفت كل هذا ..؟
     ـ من تقرير الطبيب الشرعى ..
     وسألته وقد نكست رأسها :
     ـ هل رأيت " شعبان " هذا ..؟
     ـ طبعا رأيته .. وكان يحمل الطعام للدكتور .. ثم انقطع مدة طويلة لأن المرحوم غير المطعم .. واستبدله .. وأخذ يخرج بنفسه إلى مطاعم مصر الجديدة القريبة والبعيدة .. وشعبان هذا تافه وممزق وخائر النفس ولا يفكر أذكى الأذكياء بأنه يستطيع ارتكاب مثل هذه الجريمة ..
     ـ ان الجرائم تأتى دائما من هؤلاء المرضى عقليا ونفسيا .. هؤلاء الذين تمزقوا فى داخل البيت وخارجه ..
     وتطلعت إلى وجهه وقالت :
     ـ أتعرف أن المبلغ سرق منه فى المحطة وهو يركب القطار ..
     ـ نعم أعرف .. وقد اعترف " شعبان " بكل هذا بعد القبض عليه وأخذ بصماته ولولا اعترافه ما خرجت أنا من السجن فشهادتك ضدى كانت قوية جدا فأنا آخر شخص كان فى عيادة الدكتور .. وبعدها دخلت أنت وصرخت .. فمن يكون المجرم غيرى ..
     وقالت معقبة وعلى فمها ظل ابتسامة :
     ـ الحقيقة أن الأدلة كلها كانت ضدك وأنا معذورة .. واسمح لى أن أسألك الآن وقد انتهى كل شىء ..
     ـ لماذا دخلت العيادة ..؟
     ـ كان من عادتى وأنا نازل من شقتى أن أمر عليه واسأله إن كان فى حاجة إلى شىء .. ولما دخلت فى هذه الليلة .. وجدته نائما فلم أشأ أن أوقظه .. وقلت أتركه فى غفوته إلى وقت آخر .. ولهذا خرجت مسرعا .. وقابلتك على السلم وكانت مقابلة لها تاريخ ..!
     ووضحت لها الصورة التى لم تدركها .. وتألمت وظهر أثر ذلك على وجهها ..
     وقال وهو ناظرا إلى الأرض :
     ـ ان أشد ما آلمنى هو جو الوظيفة الذى أعيش فيه وبعضهم صدق الخبر لما علم أن حادث القتل اقترن بسرقة مبلغ كبير خمسين ألف جنيه وحتى الأصدقاء استبشعوا الأمر أولا واستنكروه أن يحدث من مثلى ثم قبلوه بعد ذلك تحت اغراء الشيطان .. كأن الشيطان هو الذى يحرك مصيرنا على هذه الأرض ويقلب انسانا سويا فى لحظة إلى قاتل ولص ..
     وذلك ما يحير الألباب فى تصرفات البشر أجمعين عندما تصادق إنسانا أمينا واخترته لنفسك لأمانته يجب ألا تتزعزع هذه الثقة أبدا مهما كانت الأحوال ..
     ـ هذا حق فالأمانة لا توزع .. والذى يسرق القرش يسرق المليون .. والذى يسرق قلم الرصاص من جاره فى الفصل الابتدائى سيظل سارقا بعد ذلك فى كل مركز ووظيفة ..
     وأرجو أن توافقينى على هذا ..
     ـ طبعا أوافق ..
     وضحكت ..
     وقال هو مستطردا :
     ـ منذ شهور كنت أشترى شيئا من بقال فى الشارع وعلى بابه جموع من الأهالى تصرف التموين .. وجاءت امرأة فقيرة حافية وقالت وهى تمد يدها بشىء :
     " خد ياعم " حسين " هذا الجنيه .. "
     " ماله ..؟ "
     " أنت أعطيته لى زيادة فى الأسبوع الماضى وأنا أصرف التموين "
     ونظر إليها الناس الواقفون على باب الدكان فى عجب وذهول فالمرأة لم تقبل الجنيه .. وهى حافية وفى حاجة إلى كل قرش منه وتعرف أن البقال لص والذى يوزع عليه التموين أكثر منه لصوصية ..
     ـ ولكن لا شأن لهذا بأمانتها فهى أمينة وهى حافية وهى أمينة ولو ماتت جوعا ..
     ـ صدقينى لقد احتقرت هؤلاء الزملاء بعد الذى حدث لى فأما أن تضع ثقتك المطلقة فى صديقك أو لاتكون هناك ثقة ولا صداقة اطلاقا ..
     ان تهمتك يا سيدتى جرت علىَّ الوبال من الناس والناس فى مجموعهم تخرج من أفواههم ألسنة من النار .. إذا اجتمعوا انقلبوا إلى شياطين يطنون كالذباب ولا تستطيع أن توقف طنينهم قط ..
      ـ ما الذى أفعله لتغفر لى ذنبى ..؟
     ـ لا شىء يا سيدتى سوى العزاء .. والصبر .. لقد كان المرحوم من أخلص أصدقائى وموته أنسانى كل مصيبة حلت بى ..
     ـ هل حدثك عن سفره ..؟
     ـ بالطبع ورسم محل اقامته فى لندن .. وكان سعيدا بهذه الرحلة تواقا إليها ..
     ـ نقوم بها نيابة عنه .. ارضاء لروحه ..
     ـ من يدخل فى حرف الجمع ..
     ـ أنا .. وأنت ..
     ـ أنا لم أركب القطار حتى إلى بنها .. فمرة واحدة إلى لندن ..
     ونظرت إليه فى استغراب وحسبته يسخر
     ـ ألم تركب القطار إلى بنها .. هل هذا معقول ..؟
     ـ هو الواقع ..!
     ـ فى مثل سنك هذا كثير ..
     ـ اننى بحق فى رونق شبابى وأستطيع أن أتحرك مع وثبة الشباب وطوحه .. ولكن الفقر يعصرنى .. هل تعرفين معنى الفقر .. الذى يخيم على أسرة بأكملها ..؟
     ـ فى سنك هذا درت حول العالم ..
     ـ المال زينة الحياة وحياتك ناعمة وسهلة فلماذا تدخلين معى فى حرف الجمع .. لقد أصبح الحرف كئيبا لأول مرة ..
     ـ لا أستطيع أن أجاريك فى الكلام ولكن أشعر بثقل الذنب وحسبت السفر يخفف عنك ..
     وسألها وقد رآها تملأ بصرها منه :
     ـ السيدة أخت المرحوم ..؟
     ـ أبدا أنا قريبة له فقط وعدت من لندن منذ اسبوع ولما علمت باعتزامه الهجرة جئت لأراه قبل السفر .. كان ودودا وطيبا للغاية ..
     ـ وكنت فى سياحة هناك ..؟
     ـ لا .. كنت أعيش .. عشت خمس سنوات متصلة فى لندن ولما مات زوجى قلت لنفسى أعود لبلدى وهذا خير مكان ..
     ـ دكتورة ..
     ـ أجل وزوجى كان طبيبا ..
     ـ كلكم أطباء وهذا يبشر بالخير لكل مريض .. ولكن إذا مرضت فلن أعرض نفسى عليك ..
     ـ لماذا لقد تمرنت فى أحسن المستشفيات فى العالم ودرست على أعظم الأطباء ..
     ـ لأنى لن أمرض وسأموت واقفا ..
     ـ كان الدكتور صبحى يقول هذا وقد صدق فى كلامه ..
     واخضلت عيناها بالدموع ..
     وشعر بالعطف عليها وبالود .. ونسى كل ما سببته له ورآها تجاوب على مشاعره بمشاعر دافقة من الحب وكأن الأيام التى قضاها فى الحبس قد ولدت بينهما شعورا بالظلم الذى لا يدرك سببه والقسوة التى تصادف كل البشر فى حياتهم ..
     وظلت تسأل عنه كل يوم وتقرع بابه بعد الافراج عنه .. ولكنه سافر إلى قريته مباشرة ليمنع أهله من الحضور إلى القاهرة ويسبب لهم المتاعب ..
     فلما أحست بعودته طارت إلى بابه ورأته على حقيقته صبوح الوجه ناضر الشباب والرجولة ضاحكا على عكس ما كانت تتوقع بعد الاتهام الذى لوثته به ..
***
      وبعد هذه الزيارة أصبحت تخرج معه إلى كل مكان فى القاهرة ..
     وقالت له :
     ـ سآخذ شقة المرحوم التى تحتك فهل تساعدنى ..؟
     ـ وهل هذا الأمر يحتاج لسؤال ..؟
     ـ يعنى تفعل كل شىء ..؟
     ـ مازلت " رازكولنيكوف " لدستويفسكى ..
     ـ لا .. لا .. لا أرغب فى هذا ولا أحب أن تفعل هذا فى سبيلى ويكفى أن تكون " سيدنى " لديكنز ..
     ـ كل امرأة تحب أن تكون محبوبة ..
     ـ والرجل ..؟
     ـ الرجل مشاغله كثيرة .. والحب دائما فى الظل أما المرأة فلا ..
     ـ ولكن المرأة تعمل الآن ولها نفس المشاغل ونفس المتاعب التى للرجل ..
     ـ ولكن الحب هو فى البؤرة من قلبها .. ومن حياتها وبه تعيش ..
     ـ كل ما أرجوه هو أن تساعدنى كجار وأنت تعرف معنى أخذ شقة من صاحب بيت فى هذه الأيام ..؟
     ـ اطمئنى وضعى فى الثقة التى حدثتك عنها ..
***
     وقال لها باسما :
     ـ بعد أن غيرت العقد وأقمت فى الشقة أرجو ألا تضعى فيها نقودا أو كنوزا فتجرينى إلى تهمة جديدة ..؟
     وضحكت وقالت بنعومة وعلى وجهها التأثر :
     ـ أعرف أن الأثر لا يزال فى نفسك فمتى تغفر لى متى .. واطمئن ليس معى نقود أخزنها وما دمت فى حمايتك فأنا لا أخاف من شىء .. وشكرها وعجب لأحوال النساء وصعد إلى شقته صامتا ..
***
     وجعلت الشقة عيادة وسكنا كما كانت وجاءت بشغالة من البلد وممرضة من القاهرة وأخذت الحياة تجرى ..
***
     ووجدت أنه صنع منشرا فى السطح غير المسور للبيت وأمامه فى ركن منه مكان يستريح فيه ويسترخى وفرشه بالحشيات والمخدات ..
     فاستأذنته وقالت :
     ـ أتسمح بأن ننشر فيه الغسيل .. إن البلكونة لاتصلح وأنا لا أحب أن أنشر غسيلا فى البلكونات وربما تولدت هذه العادة فى اقامتى الطويلة فى لندن ..
     ـ على الرحب .. السطح كله لك ..
***
     وصعدت وعجبت للمكان ولما نزلت خادمتها بعد نشر الغسيل سألته :
     ـ اتخذته مكانا أيضا ..؟
     ـ إنى أسكن الأدوار العلوية دائما وأحب أن أكون قريبا من النجوم .. وفى الحرب العالمية الثانية كنت صغيرا وأسكن فى شقة صغيرة فى المنيل قريبة من النيل .. وقريبة أيضا من السماء وكنت أرى منها مآذن القلعة ومساجد القاهرة وقبابها وأبراج الكنائس .. كلها مضاءة وشامخة وصامدة فى وجه العدو .. وكانت الطائرات تروح وتجىء وتلقى قنابلها .. ولكن المساجد والكنائس والقباب ظلت شامخة وصامدة ولم يصبها السوء قط ..
     وفى الحرب مع اليهود .. ظلت القاهرة أكثر شموخا .. وحركهم جبنهم ككل عادتهم فى الحروب إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الاسماعيلية والسويس .. ليثيروا الشعب ضد حكامه .. لأنهم لا يعرفون طباع الشعب ..
     الشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبه .. ينسى كل متاعبه ليحقق هدفه .. كل شىء يقبل إلا الهوان ..
    وقالت لنفسها إنه يخطب كأنه فى حفل ونسى أنى معه وقريبة منه وأشم رائحة عرقه بل وأسمع دقات قلبه ..وهكدا الرجل دائما ..!
     وسمعها تقول لترجعه إليها .. وهى تشير بيدها :
     ـ فى ليلة قمرية سنصعد معا إلى هذا السطح ..
     ـ شاعرية جميلة من طبيبة .. أن ترى القمر ..
     ـ اننا لانراه فى سماء القاهرة وكأنه غير موجود .. إلا إذا خرجنا فى الليل إلى الخلاء .. أو صعدنا إلى فوق .. أطبقت البيوت وخنقتنا .. وتبلد احساسنا بعدها .. ولم نشعر بالجمال ..
     ـ إنى أشعر به دائما يملأ طيات نفسى ..
     ـ أين ..؟
     وأمسك بيدها وضغط .. وشعرت كأنها تطير ..



  
=================================  
 * نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين " سنة 1983
=================================
















الفقيـر

 


           هبطت الطائرة فى مطار " كاى تاك " بمدينة هونج كونج والصبح يتنفس وكان المطار مزدحما للغاية بالركاب ، لأن الطائرات جميعها تتوقف فى الليل وتعمل بالنهار بسبب وجود الجبال ..
     وخرجت منشرح الصدر نشطا لحسن الاستقبال الذى لقيته فى كل مكان .. فى الجوازات والاجراءات الصحية حتى نسيت مرض القلب .
    واستقبلنى على الباب حشد من فتيان الفنادق ومكاتب السياحة والمحلات  يوزعون البطاقات على القادمين . وتناولت كل ما تقدم لى منها ووضعته فى جيبى .
     ورأيت قبل أن أخرج إلى المدينة أن أجلس أولا فى الكافتريا " ملهى المطار " واختار من هذه البطاقات الفندق الذى سأنزل فيه .
     وكان المقهى مزدحما بالمسافرين والقادمين كالعادة فى مثل هذه الساعة من الصباح ، ويصبح من المألوف أن يشاركك مسافر فى مائدتك الصغيرة يحتسى القهوة أو الشاى ، وينهض سريعا ليلحق بطائرته أو يخرج إلى المدينة .
     واخترت مائدة قريبة من الباب وبجانبى حقيبة اليد الصغيرة ، وحقيبة الملابس الوحيدة ، وطلبت قهوة وفطيرة وأخذت اتطلع إلى البطاقات ، ورأيت أن أصرف النظر هذه المرة عن فنادق " كولون " لأنى نزلت فيها فى مرات سابقة ، وأن أغير المنظر والمكان وأختار فندقا فى هونج كونج ذاتها لأستريح من حركة الانتقال بالباخرة كل صباح من كولون إلى هونج كونج ، ولأعيش فى قلب المدينة العجيبة بكل مشاعرى ، واكتشف أسرارها ما استطعت فى مدى الأيام القليلة التى سأمكثها .
     واخترت الفندق بالفعل من بطاقة من هذه البطاقات بعد تمعن فى الاسم والسعر المحدد للغرفة وكان فى شارع " دى فو ".
     ولما رفعت رأسى عن البطاقة الفيت " الكافتريا " قد امتلأت عن آخرها ، وأصبح يجلس بجانبى وحولى أناس من كل الأجناس ومعهم حقائبهم مثلى موضوعة على الأرض بجانب الموائد ، ومنهم من انشغل بكتابة البطاقات التذكارية ، أو وقف يصور منظر الطبيعة من الشرفة الخارجية حيثما تدور .
                                ****
     وخرجت من الكافتريا ممسكا كل حقيبة بيد ، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها على المدينة والجو نديا لطيفا والصيف كله يتقلص وكنا فى نهاية أيامه .
    ووجدت فى الطريق تاكسيا من التى تستعمل لنفر واحد ، فاستوقفته وقلت للسائق قبل أن أركب ..
      ـ ليس معى دولارات هونج كونجى وسأعطيك دولارا أمريكيا واحدا لتوصلنى إلى مرسى الباخرة .
وكنت أعرف المسافة وأقدرها ..
فرد السائق فى لطف :
      ـ تفضل .. والدولار الأمريكى يكفى وأكثر مما سيحصيه العداد .
 وركبت وكان يسير فى سرعة .. والمدينة أخذت تتنفس وتتحرك بكل مرافقها والمارة يسرعون إلى عملهم فى خفة عجيبة .. وسألته فى موقف الإشارات بعد أن شاهدت صورة لمسز تاتشر فى صحيفة جنوب الصين .
     ـ المسز تاتشر هنا ..؟
     ـ كانت هنا .. وسافرت .. رجعت إلى بلادها ..
قال هذا دون أن يلتفت إلى ناحيتى ..
     ـ وسترجعون إلى الصين الأم بعد 15 سنة ؟
    ـ فى هذا الخير .. ومن الصينى الذى يرضى بالاستعمار ؟
    ـ ألا تخاف من تغير النظام ؟
    ـ المهم أن تبقى لى عربتى هذه ، وعندما يكون الحكم عادلا وفى صرامة وحزم ، فإنه يرضى كل إنسان .
    وابتسم وتلفت وبدت سنته الذهبية تلمع من خلال أسنانه الصفراء من فعل التبغ ..
    وكان فى بداية الشيخوخة ولكنه ما زال قويا حاد البصر متمالكا لأعصابه وجسمه ، وهو جالس لا يدل جسمه على طول ولا سمنة .
     وقلت فى نفسى وهو يشق طريقه فى قلب " كولون " وعيناى إلى العمارات والمتاجر وحركة الناس فى الطريق .
     ستظل هونج كونج هى هونج كونج سواء انضمت إلى الصين الأم أم ظلت مسلوخة عنها ، لقد أخذت طابع المدينة الفريدة .. إن أناسها أصبحوا من تكوين آخر وطينة أخرى .. حب المنافسة ، وفى ظهرهم اليابان بكل ثقلها فى الصناعة وتقدم العلم والحركة السريعة والنظام الدقيق جعلهم فى وضع آخر .. ثم حرية الانطلاق خلقت منهم جبابرة فى هذه الميناء ، أنظر إلى البضائع ، أنظر إلى الصناعات الصغيرة التى فى طريقها إلى التطور السريع لتصبح ثقيلة كما تصنع اليابان .. أنظر إلى حركة الناس فى الشوارع ، ولهفتهم على العمل وتقليد الأشياء أولا ثم اختراع الجديد .
    هذا كله مبهج ومريح للقلب .. ونسيت تعبى ..
    وسألنى السائق :
     ـ اخترت الفندق ..؟
     ـ نعم ..
وبلغنا كوبرى الباخرة وأخرجت له الدولار ، وشكرنى وتحرك بسيارته . ثم وجدته يتوقف وينادى بالإنجليزية ، ونزل من سيارته وقدم نحوى سريعا قبل أن أهبط من الكوبرى إلى الباخرة .
   وقال وهو يلهث :
     ـ هل هذا دولار ؟
     ـ نعم ..
     ـ انه عشرة دولارات ، فحاذر إن الدولار من حجم العشرة فى العملة الأمريكية ، فحاذر من هذا الخطأ وإلا سيفرغ جيبك فى يوم واحد !!
  ونظرت إلى الرجل الفقير فى اكبار .. إنسان لا تربطنى به معرفة ولا صلة ، أكثر من صلة راكب غريب بسائق سيارة أجرة ، رجل فقير ..يخاف أن ينضم موطنه إلى الصين فتؤخذ منه عربته الصغيرة المهالكة التى يعيش منها وتصبح من عربات الدولة .
     رجل يفعل هذا ، وفى حيطان الميناء وفى الكوبرى وفى البواخر وفى المحطات ، لافتات تحذر من النشالين ، لافتات فى كل مكان بحروف بارزة كبيرة بالإنجليزية .
    إن كل ما يحرص عليه هذا السائق هو كيانه الصغير وأسرته ، إن كانت له أسرة ، لو كان هذا الرجل طامعا فى المال لطوى الورقة كما يطويها غيره من لصوص المال ، ومن الذين لايتورعون فى سبيل الحصول على المال من فعل كل شىء وارتكاب كل ذنب من السرقة والقتل والنهب والخداع واستضعاف الضعيف وزيف الحقائق والتمويه على الناس .
     كم أذل المال قوما كانوا كبارا فى نظر الناس وشامخين فطوى صفحتهم فى لحظات ، ومرغهم فى الوحل ، وطمس رؤوسهم فى التراب .
     ودارت كل هذه الخواطر فى رأسى والباخرة تتحرك إلى هونج كونج وصورة الرجل الفقير مرفوعة فوق رأسى .. وبجانبها اللافتات بالخط العريض .. حذار من النشالين .
     هل هو تمويه من الإستعمار الإنجليزى .. لتشويه وجه المواطن الصينى فى هونج كونج أم هو حقيقه ؟ الواقع أنه حقيقه إلى حد ما ، ففى هونج كونج رقيق أبيض ودعارة ، ونشالون لا يشق لهم غبار ، وأصحاب حيل لا نظير لمثلهم فى العالم .
    ولكن فى هونج كونج بجانب الصينيين ، غرباء استوطنوا فيها من كل الأجناس فى الأرض .. من الإنجليز والأمريكان والهنود ثم قوم من اليمن والباكستان وغرب أوربا وشرقها .
    فلا مانع من التحذير من النشالين الخفاف والثقال عند كل تجمع وحشد ، لا مانع أبدا ، وذلك أول واجبات البوليس فى المدينة .
                                ****               
   وخرجت من الميناء إلى الفندق فى عربة ركشا واخترت غرفة فى الطابق الخامس .
   ولم يستغرق الانتقال من المطار إلى الفندق إلا القليل من الوقت ، ولهذا لم أشعر بأى تعب فى القلب ، ولشوقى إلى المدينة قررت النـزول اليها بعد أن احلق ذقنى وآخذ حماما سريعا .       
     وتناولت حقيبة اليد لأخرج منها أشياء صغيرة كأدوات الحلاقة وزجاجة الكولونيا .
     ولما فتحت الحقيبة حدقت فيها مشدوها وجدت أنها ليست حقيبتى ، وبها أشياء قليلة لا تخصنى ولا تمت لى بأية صلة ولا شىء فيها يدل على صاحبها .
     وكان حجم الحقيبة وطولها وعرضها ولونها مثل حقيبتى تماما .. وهى ليست من حقائب اليد التى توزعها شركات الطيران على مسافريها وعليها اسمها كإعلان ، لا إنها ليست من هذا الصنف من الحقائب .. وإنما هى حقيبة يد من التى تباع فى كل الأسواق الأوربية بنية غامقة بقفل واحد يفتح ويغلق اتوماتيكيا بضغط خفيف من جانب . 
     وكنت قد اشتريت واحدة من هذا الصنف وأصبحت احملها فى كل رحلة لأنها سهلة الاستعمال وخفيفة ، ولا يسع باطنها إلا أقل الأشياء ..
     وبمجرد علمى أن الحقيبة ليست حقيبتى اعترتنى رجفة .. وازدادت الرجفة إلى هلع زلزل أعصابى .. وأوجع قلبى ، ولما وجدت فى الحقيبة كيسا جلديا محشوا بالدولارات .. وكل انسان يفرح لمنظر الدولارات وهو فى رحلة .. ولكن منظرها أفزعنى .. وجعلنى ارتعش .. وأخرجتها من الكيس وكانت ضخمة كبيرة وظاهرة للعيان .. ولم يشأ صاحبها أن يخفيها بأية وسيلة من وسائل الاخفاء وحيله .. كأن يطويها فى الأوراق أو يضعها فى محفظة كبيرة مع أشياء أخرى ، لم يفعل هذا .. بل تركها ظاهرة بمجرد أول نظرة ولمسه ..
     كانت صورة لنكولن تسر الناظر .. الفلاح العصامى المتفرد فى الطباع والقريب جدا ، والذى يحمل صفات أعظم رجالنا .. بعد النبى .. عمر ابن الخطاب .. والقياس مع الفارق ..فعمر كان أعظم لاعتبارات كثيرة .. ولكن فى العدل والنظام وصرامة الحكم وبساطة العيش ، والاغتيال من يدى أفاقين اشتركا ، واشتركا بما يذهل أمام التاريخ ، لنكولن الفلاح العصامى محرر العبيد برزت صورته فى نفسى كما برزت فى الدولارات الأمريكية ولم تبرز بعده صورة ، ولكنى كمصرى استرجعت صورة " أيزنهاور " الذى أعطى لليهود فى اسرائيل لطمة قاسية بعد عدوان 1956 ووضعهم فى حجمهم الطبيعى .
                                 ***       
   نظرت إلى الدولارات طويلا ولم افكر فى عدها ثم أعدتها إلى مكانها من الكيس الجلدى وذهنى يشتغل بسرعة ، ولكن يجب علىّ ألا أتصرف بغباء وتهور ، فهذه الدولارات مطمع للكثيرين فيجب أن أتحقق أولا بعد كل خطوة وأتحقق بحذر وتأن لأنها أمانة وضعها القدر فى عنقى .
     حقيبة اليد هذه حملها عامل المصعد فى الفندق مع حقيبتى الأخرى كما حملتها أنا من الكافتريا فى المطار إلى التاكسى ثم إلى الباخرة ، فهل أخطأ عامل المصعد وحمل حقيبة نازل من نـزلاء الفندق بدل حقيبتى لتصادف وجود حقائب كثيرة فى الفندق وأنا داخل ..؟
     أم أن الخطأ من جانبى فى الكافتريا ، فقد حملت حقيبة مسافر آخر بدل حقيبتى وأنا لا أدرى لما بين الحقيبتين من تشابه كبير وتطابق تام فى اللون والحجم .
    إن كان الخطأ قد حدث فى الفندق .. فسيكون السؤال من جانبهم وسيأتى العامل ويتدارك الخطأ ، أما أنا فلا أحدثهم بشىء ، لأنى لم أختبر الفندق بعد ولا أعرف مقدار ما هم فيه من أمانة .
     ولما لم يسألنى أحد .. تناولت الحقيبة بيدى .. ونزلت إلى بهو الفندق .. وتحادثت مع الشاب العامل فى الاستقبال وأنا أقول لنفسى إن كان هناك خطأ فسيذكره منظر الحقيبة فى يدى بكل أمر ..
     ولكنه لم يحدثنى عن شىء متعلق بالحقيبة ، ولما عرف أنى خارج للتسوق ، دلنى على متجرين فى شارع " جلوستر رود " وأدركت بعد هذا أن الخطأ حدث فى الكافتريا .. فأسرعت اليها .. وفى ذهنى خاطر أن الذى حمل حقيبتى لابد أنه أدرك الخطأ مثلى ورجع إلى الكافتريا كما رجعت .
                                  ***      
     وفى الكافتريا دخلت وأنا أظهر الحقيبة لكل العيون وجلست إلى نفس المنضدة ، وطلبت زجاجة عصير ، وكانت الحقيبة بجانبى فرأيت أن أضعها على المنضدة لتظهر أكثر ويراها الجرسون إن كان قد سأله أحد عنها من قبل.
     وطال جلوسى ، ولم يأت أحد ، ولم يسألنى شخص ، ورأيت أن من حسن التصرف والصواب ألا أتقدم وأكشف الأمـر فمن الذى يرفض أخذ دولارات هبطت عليه من السماء .
     ولما يئست وأحسست بالتعب ووجع القلب ، تغير شعورى من الحرص عليها ، إلى تركها للمقادير لأنها عذبتنى ، ورأيت أن أنهض وأترك الحقيبة فى مكانها ، وتسللت إلى الخارج بعد أن تركتها على المنضدة .
     ولكنى قبل أن أركب التاكسى وجدت جرسون الكافتريا يسرع ورائى وبيده الحقيبة .
     وشكرته وأنا فى حالة غيظ ، ولكنى ناولته دولارا هونج كونجى لأمانته .
                                ***  
     وعدت إلى مدينة هونج كونج ، والمدينة العجيبة قد فتحت كل أبوابها ، شوارعها الطويلة الضيقة تموج بالناس .. من كل الأجناس .. ذاهبين وراجعين ومتطلعين إلى اللافتات الكبيرة والصغيرة التى تغطى كل الحوانيت بالأحرف الكبيرة البارزة وباللغة الصينبة فى الأعم والإنجليزية فى القليل .. حروف ضخمة تسد عليك الطريق والعيون زائغة من كثرة البضائع المعروضة ورخص أثمانها وتنوع أشكالها .. إن كل صناعات الدنيا تصب هنا بجانب صناعتهم .. إنهم لا يضعون قيودا على شىء يصنعه أى إنسان .
    كان الترام من الطابقين يتحرك أمامى فى الشارع كما كانت عربة الركشا .. وكانت السيارات .. ولكنى لم أركب أيا منها ومشيت على رجلى شبه حالم ، ونسيت تعبى ، ونسيت حقيبة اليد بيدى اليمنى ، نسيتها وأنا أغوص فى قلب المدينة حتى وصلت إلى المطاعم الصغيرة فى صف واحد التى تبيع الكرشة التى يسبح فيها لحم البقر !!
     واشتاقت نفسى إلى أكلة صينية ! وإلى الذهاب الى سوق الخضار الكبير الذى يفرغ من كل ما فيه فى الليل ، ويغسل أرضه وسمائه بالماء المغلى والصابون ويعقم ويطهر !!
     وإلى الذهاب إلى حديقة النمر وركوب عربة الركشا والتنـزه فى الغابة وإلى التوجه إلى الميناء ومشاهدة السفن العملاقة وهى تفرغ شحناتها من البضائع وحولها الرافعات تدور وتجلجل .  
     كما اشتاقت نفسى إلى دخول السينما فى حفلات النهار بعد أن شاهدت فى الشارع صور جارى كوبر وجون واين ولى ملفن العباقرة وعلى رأسهم كوبر الذين ذهبوا ولم يخلفهم أحد .
     كما تقت إلى التجول فى أرجاء المحلات الكبيرة التى اشتهرت بها هونج كونج وإلى دخول المكتبات واستعراض صفوف الكتب .
     وتذكرت أن من المحتم علىّ أن افعل كل هذا قبل سفرى فى نهاية الأسبوع إلى بكين ، ويجب أن أسير على جدول ينظم أيامى المقبلة وقبل كل شىء أن أرجع الآن حقيبة اليد إلى الفندق .
                             ***    
    وتركت الحقيبة فى الفندق وخرجت أتجول فى المدينة ، زرت كل الأمكنة التى أحبها .
     وتغديت وبعد الغداء نمت أكثر من ساعة لأريح أعصابى وقلبى .. وخرجت فى الليل إلى المدينة التى تتلألأ بكل الأنوار .. الأنوار البنفسجية والفسفورية وألوان الزمرد والياقوت ، وبريق اللؤلؤ وشعاع الماس .
     كل شىء يتحرك فى أمواج وأمواج .
     ودخلت حى " منشاى " حى الملاهى والمسارح ، وسرت فيه بكل طوله وعرضه .
     وفجأة برزت أمامى لافتة ضخمة عن عراف من العرافين ، وكانت اللافتة بحروف كبيرة وعليها رسومات ، بلورة كبيرة تكشف الغيب !! ومضيئة بالأنوار القوية وتشير إلى مدخل ضيق يفضى إلى صاحبها .
     ودخلت فى ضرب لا نهاية لطوله ، على جوانبه الحوانيت الصغيرة التى تبيع اللؤلؤ .. وتماثيل الخزف والنحاس لبوذا .. والعقود وقناديل الزيت والصور والرسوم لكبار الرسامين والمصورين ، والقداحات .. والأقلام .. والمحابر .. وعقود الماس ، شاهدت كل هذا وأنا أتحرك فى بطء وهلع إلى العراف وكان بابه فى نهاية الدرب .. وعلى الباب حصيرة من عقود الخزف والزجاج تتموج بالكهرباء ، ولا حس ولا صوت .
     وحركت الحصيرة ودخلت ، وطالعنى ما يشبه الجب ووجه رجل سمين ضليع حاد النظرات ، تربع على حشية حمراء قامت على كرسى مضلع من الأبنوس المطعم بأصداف البحر ، ولا سند له ، وأمامه بلورة كبيرة مستطيلة مستقيمة الزوايا كشاشة التليفزيون تتلون بكل الوان قوس قزح ولكنها ثابتة.
     وعن يساره شىء لم أشاهده وأنا داخل لقلة الضوء وتعمد خفوته ليضفى جو الرهبة على المكان ، ويتكامل الموقف ، عن يساره فتاة جميلة فى عمر الزهور من أنضر وأجمل وجوه الصينيات ، بضمة وشرطة فى العين ، وارتخــاء فى الجفن وبسمة على الشفاة تذيب القلوب الصلدة .
     لعلها سكرتيرته أو مترجمته فهو لايتحدث إلا الصينية عن عمد أو تظاهر.
    وقلت للفتاة بالإنجليزية عن غرضى من الزيارة .. ولكن على صورة أخرى .. قلت لها إن حقيبة يدى سرقت فى صباح اليوم وأريد أن أعرف السارق والمكان الذى سرقت فيه .
     قالت برقة :
     ـ عشرون دولارا .. واسترح كما أنت ..
    فأخرجت عشرين دولارا هونج كونجى .. وجلست على كرسى أمام المرآة كما أشارت لى وقلبى ينبض .. وكل جوارحى تنتفض .. فقد خيل إلى أن كل شىء يدور فى الجب مع انقطاع النور وتسلط العتمة ..
     وسمعت صوت العراف الأجش يقول ما يشبه التعاويذ بالصينية ، ويترنم بنغم كرنين الأجراس .. ثم خفت وانقطع صوته .. وخيم سكون الموت ..
    وسمعـــت صـوت الفتاة .. فتنبهت وأخذت أنظر إلى المرآة ..
    وظهرت الكافتريا فى المطار .. ومن كان فيها من المسافرين كما رأيتهم فى الصباح .. ظهروا فى حجم صغير ولكن ملامحهم وسحنهم واضحة .. وظهرت مائدتى ومن كان حولى ..
    ثم ظهر شخص طويل ببدلة كحلية ، كان جالسا إلى جانبى ومعه سيدة وطفل .. ونهض وتناول حقيبتى .. بدل حقيبته وأسرع إلى الباب .
     وصرخت .. وأضيئت الأنوار .. وسمعت ضحكة الفتاة وسألتنى :
      ـ لا ترع .. هل عرفته ؟
      ـ وكيف أعرف .. والرجل كسمكة فى بحر ..؟
      ـ ولكنه من ركاب طائرتك ..
      ـ أبدا ما أحسبه منهم ..
      ـ ستعرفه .. وتهتدى اليه .. إذا أبلغت البوليس بأوصافه كما شاهدتها ..
      ـ هذا ظنك ..؟
      ـ أجل ..!
وكان العراف يحدق فى وجهى وعلى فمه ابتسامة .. ودهاء .. لقد انتصر.. وكشف الأسرار .
     لكنى كنت فى حالة ذهول .. هل هى لعبة شيطانية .. والرجل فى إمكانه عرض صورة للمطار وهو يعرف أنى كنت على سفر .. ولكن الحركة هناك .. ونفس سحنة الشخص المجاور لمائدتى هذا كله أذهلنى .. ولم أستطع تحمل الصدمة وأنا أحمل علة القلب .. وأخذنى ما يشبه الدوار وظللت فى مكانى وأدركت الفتاة حالى عندما رأت العرق يتفصد من جبهتى .
    وتناولت الفتاة ذراعى ، وأراحتنى على حشية فى غرفة مجاورة ..
    ورأيت أن من قلة الذوق أن أشغل المكان .. فتحاملت على نفسى وهبطت إلى الشارع .. وأنوار المدينة تتلألأ .. وتحاشيت الجموع ما أمكن .
     وفى شارع " كونات رود " وجدت ملهى فدخلته وطلبت زجاجة من الأستاوت .. وأراحتنى بعض الشىء ، وجاءت فتاة وجلست بجانبى فعاملتها بلطف .. وأدركت هى عدم رغبتى فى مجالستها فنهضت ، وتركتنى وحدى .
     وكانت الموسيقى الصينية هادئة تريح النفس والأعصاب .. والأنوار خافتة .. وشاهدت رقصات صينية جميلة .. وبعد الرقص جاءت العاب بهلوانية ، فغادرت الملهى إلى الفندق وأنا أشعر بالتعب وألم القلب ..!!
     وسقطت وأنا أخرج من المصعد فى الجناح الذى به غرفتى .
     ولما فتحت عينى وجدت نفسى على سريرى وبجانبى سيدة .. وأنا أعرف أن الصينيين بطبعهم الشرقى لا يشغلون الفتيات بالليل فى الفنادق .
     وكان الطبيب الذى جاءوا به بعد سقوطى لا يزال فى الغرفة ، وحيانى بلطف وقال :
     ـ لاتشغل نفسك ، أزمة خفيفة ومرت بسلام والفضل لصاحب الفندق الذى استدعانى على الفور .. ولهذه السيدة الكريمة جارتك .. التى كانت أول من شاهدك فى لحظة الإعياء .
     وأشار إلى سيدة تقف بجانبه وكانت هى التى رأيتها على باب المصعد ، وحسبتها من فتيات الفندق .
     وشكرتها بعينى وأنا صامت .. وحدثتها عن أجر الطبيب ورغبتى فى سداده .
     فقالت برقة :
     ـ الأجر سيضاف إلى حسابك فى الفندق .. وهناك ممرضة ستأتى بعد ساعة ، وتعطيك حقنة ، والأحسن أن تظل صاحيا ..!!
فقلت فى نفسى إن من يتطلع إلى جمال وجهك سيظل صاحيا إلى آخر عمره .. خشية ألا تشرب روحه من هذا الجمال .       
وحدثتنى أنها فى الغرفة المجاورة لغرفتى ، وجاءت قبلى بيوم واحد لتقضى فى هونج كونج بضعة أيام بعد بانكوك .. ونيودلهى .. وأنها سويدية وتشتغل مدرسة فى لندن منذ أربع سنوات .. وكانت متـزوجة ولها بنت فى الثامنة عشرة من عمرها ، تزورها من وقت لآخر فى السويد ، والبنت فى رعاية جدها .
     حدثتنى عن كل هذا بسرعة وبصراحة الأوربية من الشمال كأنى أعرفها من سنين .
     ـ وقلت لها :
 بنت فى الثامنة عشرة .. وأنت فى العشرين ، أليس هذا بغريب ؟‍‍‍ ‍
فضحكت بقلب طروب .. ونغمت :‍‍‍‍
     ـ هل أنا صغيرة هكذا .. حقا ؟
     ـ أجل .. ولا أحد يمكن أن يعطيك أكثر من هذه السن ..
     وكان وجهها الأبيض الجميل البديع القسمات يضىء ، وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق الزمرد ، وكنت فى حالة من المرض لاتجعلنى أزيد  من إطرائى ..
    وجاءت لى بكل علاجات القلب التى كتبها الطبيب .. وتحركت وراحت وجاءت فى خفة بنت العشرين حقا .
    ولما علمت أننى مصرى واسمى " فتحى " قالت لى أنها التقت بشاب مصرى اسمه " فتحى " وهى تدرس فى جامعة اكسفورد ، وكان يمكن أن تتزوجه .. ويتغير مسار حياتها .. لولا أن وضع القدر فى طريقها هذا الشاب المجرى الذى تزوجته بعد رحلة فى الدانوب .. وخلفت منه البنت الوحيدة .. ثم انفصلا.. ومن وقتها وهى سائحة فى كل الأجازات .
   كانت ترتدى بدلة الرحلات .. بنطلونا بنيا وبلوزة صوفية داكنة وتركت شعرها المقصوص على طبيعته .. وكانت أسنانها فى بياض العاج .. لولا أثر السيجارة التى أطفأتها وهى فى حجرتى حتى لا تؤذينى ..‍‍
   وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل زجاجة وهى باسمة .. وقالت :
     ـ ستشرب معى ..
     ـ آسف ممنوع..
     ـ بحكم الدين ..؟
فأشرت إلى قلبى ..
فقالت بنغمة حبيبة :
     ـ إنى أحاول أن أنسيك هذا وليس فى عينيك مرض لقلبك .. والعين لا تكذب ..
     ـ ولكنى أحس به ..
     ـ إنسه ..
وتناولت يدى ..
     ـ إن نبضك عادى جدا ..
     ـ طبيبة ..؟
    ـ كنت أود إن أكون طبيبة ، وكان والدى وقتها يعمل فى لندن .. ولكن جرفتنى حرفة اللغة ، فدرست اللغات الشرقية وتخصصت ..
    فقلت لها :
     هذا أحسن والخير فيما جرى ..
    وحدثتها عن سفرى إلى بكين ومحاضراتى فى قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين عن الحريرى والهمزانى كأعظم قاصين فى تراثنا العربى ..ولم يكن الإسمان غريبين عليها..
     وذهبت إلى غرفتها وعادت تحمل نسخة قديمة نادرة الطبع من الف ليلة وليلة بالإنجليزبة .
     فقلبت فيها معجبا .. وحدثتها عن كل ما أعرفه عن الف ليلة وليلة .. ومن استفاد منها من كتاب الغرب .. استفاد منها بوكاشيو وكتب الديكاميرون .. ثم مارجريت نافار التى كتبت الهيتاميرون .. كما استفاد منها جيته .. ولامارتين فى اسفارهما .. كل هؤلاء استفادوا من كتابنا العرب .. ولكن لقصورنا وتخلفنا أغفلنا أمجادنا .
   والعربى منذ القدم وحتى العصر الجاهلى قبل الإسلام ، كان يقص ويحكى أجمل القصص وأبدع الحكايات فى رحلاته من مكان إلى مكان .. فهو أول من قص بالسليقة روائع القصص .
     كما أن بديع الزمان الهمزانى أول من كتب قصة فنية قصيرة متكاملة العناصر الفنية كما يقول أساتذة الأدب وهذا ما سأتحدث عنه فى محاضرتى فى بكين .
    ولاحظت هى أن حديثى عن أمجادنا من الكتاب العرب أراحتنى فحدثتنى عن كل ما عرفته منهم فى دراستها ، وعن عمقهم الفكرى وعبقريتهم .
    وقلت لها :
     ـ لقد كنت السبب فى سهرك وتعبك .. وأنت فى رحلة للترويح عن النفس .. ولا أدرى كيف أشكرك .. وأنا مسافر بعد أيام ، وقد لا نتقابل ولا أجد مجالا ولا فسحة للشكر ..
وحدثتها عن العراف ..
فقالت :
     ـ ما الذى دعاك للذهاب اليه .. إنهم حمقى وكاذبون ..
     ـ ولكنه كان ذكيا .. وبارعا ..
وحدثتها بحقيقة المسألة ..
فقالت فى تعجب :
     ـ هذا غريب .. وأين الحقيبة ..
     ـ إنها معى .. وهاهى ذى ..
فقلت لها مازحا :
     ـ فكرت فى شىء يريحنى ..
     ـ ما هو ..!
     ـ نتقاسم هذه الدولارات ..
فتمايلت ورقص قلبها من كثرة الضحك ..
     ـ إنها تخصك وحدك .. رزق ساقه الله اليك ..
     ـ إنها لا تخصنى .. إنها تخص صاحبها .. إننى من نسل قوم كان الحاكم منهم يطفىء سراج الدولة إذا تحدث فى شئونه الخاصة ..
     ـ من ..!
     ـ إنه عمر بن عبد العزيز ..
     ـ ولكن الدنيا تغيرت .. وتغير معها الناس ..
     ـ الأمانة لا تتغير مع الزمن لأنها شىء باق .. وشرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور ..
     ـ نعم ما دام الخير موجودا فالدنيا باقية .. وبالخير نقاوم كل عناصر الشر مهما كانت ضراوتها ..
وسمعت نقرا على الباب .. فقالت بدماثة :
     ـ جاءت الممرضة لتعطيك الحقنة .. وسأتركك لحظات ..
وغادرت " كرستين " الغرفة والممرضة داخلة وكانت صينية فى الثلاثين من عمرها .. قصيرة ونحيفة سريعة الحركة .. وجهها الصبوح يبتسم فى وداعة ..   
     وغرزت الحقنة سريعا .. وطوت علبتها ، فقلت لها وقد سرنى أنها تتقن عملها :
     ـ انتظرى لحظة .. أرجوك ..
    فاستغربت ، وظلت واقفة .. وأخرجت لها ورقة بمائة دولار هونج كونجى من جيبى لها .                
   ففتحت عينها فى ذهول .. وسألت :
     ـ ما هذا ..؟
     ـ دولارات هونج كونجى .. أعطيها لك منحة منى ..
     ـ مقابل ماذا آخذها .. إننى لم أمنحك شيئا بالمقابل .. فكيف آخذها..؟
     كانت جادة فى كلامها كالسياط .. الهبتنى تماما ..
     فقلت أخفف الوضع .. وأصرف عنها ما فكرت فيه ..
    ـ لقد أعطيتنى حقنة الشفاء ..                            
فلانت ملامحها وهى تستدير لتواجهنى :
     ـ الحقنة .. أخذت ثمنها من الفندق ..
ونظرت اليهــــا صامتا وهى خارجة من الغرفة ولم أعقب ..
     ودخلت " كرستين " وحدثتها بما جرى .. فضحكت .. وقالت بنغمة لها معناها :
     ـ هكذا الفقير .. والناس لا تعرفه ..
    وقلت لها وأنا أشير إلى الحقيبة التى كانت السبب فى عذابى وتطور وجع القلب ..
     ـ وما الذى سنفعله الآن بعد كل هذا ..؟
     ـ سننشر عنها سطرين فى جريدة جنوب الصين وسيأتى صاحبها حتما بعد النشر ..
     ـ وكيف أنتظر .. وأنا مسافر إلى بكين ..؟
     ـ سترسل برقية إلى الجامعة .. وتؤجل المحاضرة إلى أيام أخرى ..
وكان فى كلامها الصواب .. وأمسكت بيدها لأشكرها .. وشعرت بالراحة .. وخف العذاب والدوران .. وإن كنت أعرف أن الأرض ستظل تدور بعنف بمن عليها ولا تحفل بمن يسقط من جوانبها ..


==========================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو فى تاريخى 24و31|1|1983 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين " سنة 1983
=================================









   اسم القصة                       رقم الصفحة 
السكاكين         .....................   2
عضة الكلب     ...................     12
الساعاتى  .........................    20
المهاجر ............................   40
الفقير   ...........................    56